حب الحياة

ت + ت - الحجم الطبيعي

يبدو لي أن مفهوم الحياة قليل التداول في الكتابة العربية عموماً، وفي الكتابة هذه الأيام. وحب الحياة ليس هو نفسه ما تطلق عليه الداروينية غريزة البقاء، وآية ذلك أن الانتقال من غريزة البقاء إلى حب الحياة هو انتقال من المستوى البيولوجي إلى المستوى الثقافي. فمفهوم الحياة ذو دلالات متنوعة.

فجميع الممارسات البشرية الإبداعية تنتمي إلى الحياة، فالإنسان يأكل، أساساً، بدافع غريزة البقاء، لكن فن الطبخ وتعدد ألوانه ومتعه ينتمي إلى حب الحياة، وقس على ذلك أشكال السعادة بفن العمارة وجمال اللوحة وروعة القصيدة وحرية الذات في التعبير عن نفسها والاندراج في الحياة السياسية والمدنية كل هذا وما شابهه ينتمي إلى حب الحياة.

نحن أحياء على هذه الأرض، وعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة، لكن الأرض ليست في حالها الجامدة، بل الأرض بما عليها من الحضور الإنساني الحضاري الثقافي.

وسواء جاءت جملة «على هذه الأرض ما يستحق الحياة»على لسان نيتشه في هكذا تكلم زرداشت، أو جاءت على لسان محمود درويش أو جاءت على لسان الوعي الشعبي بصيغ مختلفة كالحياة حلوة، فإن هذه الجملة تشير إلى إرادة الحياة كما يجب أن تكون عليها الحياة.

عندما نعلن بأننا نحب الحياة، فإننا نعلن في الوقت نفسه أن ليس من المعقول أن نضحي بالحياة على هذه الأرض من أجل ما دون الحياة. والإيمان بالوعد بحياة أخرى، يجب ألا ينسي الأحياء المؤمنين بها حب الحياة. أجل نريد الحياة على هذه الأرض.

نريدها كما يجب أن تكون: عزيزة، كريمة، حرة، مليئة باﻵمال والسعادة والفرح والأمان والفضاء. نريدها دون طاغية يسلبها منا. دون احتلال داخلي ودون احتلال خارجي. دون أيديولوجي يقتل من أجل أوهامه، دون النظر إلى الأحياء كأدوات رخيصة ندفع بها إلى الموت من أجل أغراض وضيعة أو غير وضيعة. ولأن الإنسان يحب الحياة فإن الكفاح يجب أن يكون ضد كارهي الحياة.

الحياة حب. وحب الحياة هو التصالح النبيل مع الحياة، والتصالح النبيل مع الحياة لا يكون إلا بحب الحياة لي وللآخر.

تصالح مع الحياة بدون حب الحياة السعيدة، رغم التراجيديا العائشة في قلب الحياة، مستحيل. الحرية أجنحة الحياة. فالحياة بلا أجنحة قفص وسجن وقبو وقبر.

المتعة التي تمنحها الطبيعة لنا حياة. الطفولة واللهو واللعب حياة. حضن الأم والأمان الذي يمنحه الأب حياة. الوطن الذي ينتصر فيه الحق والخبز والموسيقى والشعر والجمال هو وطن الحياة.

نريد الحياة السامية حيث تتحد اللذة والمتعة مع المروءة، والمروءة لمن لا يعلم هي قواعد الأخلاق التي تعلي من شأن الإنسان، وتحول دون نفيه، نريد الحياة بلا حروب تزهق روح الحياة.

هل هي دعوة مثالية طوباوية لحب الحياة؟ ربما، ولكن يجب ألا ننسى بأن لا حب للحياة بلا حب للإنسان، ودعوة للحفاظ على الإنسان.

لقد تحدث الفيلسوف الأوروبي يوماً عن موت الإنسان، وكان يقصد غيابه عن صناعة الحياة، الحياة بما هي إرادة حرة.

تذكروا دائماً أن المفهوم النقيض للحياة هو الموت، ولا تظنوا بأن الموت وقف على جسد ودع الحياة بفعل قوانين البيولوجيا، بل هناك أنواع من الموت، موت المجتمع موت، موت الحضارة موت، موت مفهوم الإنسان موت، موت الآمال موت، موت الإبداع موت، وهذا كله هو موت الحياة.

ماذا فعلتم بالحياة أيها الطغاة الصغار، من كل أنواع الطغاة.

تموز يا أبتي إنهم يشربون الآن من دمك. درويش، يا ابن أمي إني أحب القمح لكني أحب الورد والياسمين والنرجس أكثر.

Email