الحياة بعد الموت

ت + ت - الحجم الطبيعي

طالعت على صفحات «البيان» خبراً يعتبره كثيرون طريفاً أو غريباً أو مثيراً، وهو بالفعل كذلك، لكن طرافته وغرابته وإثارته تكمن في الآفاق غير المسبوقة التي قد يفتحها.

يقول الخبر إن علماء تمكنوا من إعادة إحياء الدورة الدموية ووظائف الخلايا الأخرى في جسم خنزير بعد ساعة من وفاته، والسر يكمن في تقنية اسمها «أورجان إكس» التي تضخ بديلاً للدم في أعضاء جسم الحيوان بعد موته.

سألتني صديقة عن سبب اهتمامي الشديد بخبر لن يحل مشكلة الحرب في أوكرانيا أو الصراعات في سوريا والعراق أو أزماتنا في الحياة!

لكن الحياة تكمن في خبر كهذا. وانشغال الكوكب بالصراعات والركود والتضخم وعلاقة الرجال بالنساء ومشاكل «نتفليكس» والبطالة وجودة التعليم وجفاف البشرة والفساد وفوز الزمالك وإنجازات «ليفربول» وخناقة جوني ديب وآمبر هيرد لا يعني أبداً أن ما توصل إليه العلماء من إعادة لدورة دموية ووظائف في جسم الخنزير الميت لبعض الوقت وكخطوة أولى في رحلة علمية طويلة هو ابتكار هامشي أو غير ذي أهمية أمام انشغالات الكون مهما بلغت من فداحة أو أهمية.

أهمية هذا الكشف الرهيب لا تكمن فقط في إعادة الدورة الدموية أو الإبقاء على بعض وظائف الجسم بعد وفاة صاحبه ولو لدقائق، لكنها تكمن في إحداث ثورات فكرية وعلمية وطبية غير مسبوقة مع تطور البحث وتقدم التقنية.

تقنية الإبقاء على فص الكبد أو الكلية من متبرع حي إلى متلق مستلق على بعد مترين منه في غرفة العمليات لدقائق معدودة تعتمد على درجة حرارة للحفظ بين درجتين وأربع درجات مئوية ثم يُحفَظ في سائل «إتش تي كي» لمدة أقصاها 12 ساعة. مرة أخرى، هذا يحدث في حالات نقل أعضاء من متبرع حي وزرعها في مريض.

أما النقل والزرع من متبرع متوف فهذه قصة مختلفة، ومصاعبها ذات طبيعة مغايرة. فالمعروف أنه بعد دقائق من توقف القلب، تتوقف الدورة الدموية وتبدأ خلايا الجسم رحلتها نحو الموت بسبب توقف ضخ الأكسجين، وهنا تبدأ التغيرات الكيميائية التي تقضي على الأنسجة وتلحق الضرر بوظائف أعضاء الجسم.

أعضاء الجسم - سواء الإنسان أو الحيوان - تبقى رغم التقدم العلمي الهائل والمتلاحق لغزاً لا أول له أو آخر. وإذا كانت النتيجة الأقرب إلى الاستنتاج لهذا الكشف غير المسبوق هي الثورة الصحية والطبية الكبيرة التي ستحدث في تقنيات نقل وزراعة الأعضاء وزيادة صحة العضو أثناء عملية النقل والزرع بالغة الحساسية، فإن النتائج الأخرى ستؤدي حتماً إلى تفجر ثورات فكرية هائلة.

بالطبع ستتدخل عوامل ثقافية ودينية ينبغي أن تؤخذ في الحسبان. لكن الثقافة والدين لا يتعارضان مع العلم والابتكار. أحد العلماء المشاركين في الكشف قال إن ما توصلوا إليه من شأنه تغيير أعراف البشر الاجتماعية الخاصة بالموت، والنظر إلى الحياة والموت باعتبارهما أبيض وأسود ستخضع لإعادة تفكير. العالِم يرى أن فكرة الموت تحتاج إعادة نظر وتفكير، وهذه مسألة بالغة التعقيد وتحتاج الكثير من الوقت والفكر المتأني. وهذا التوجه في حد ذاته مذهل.

«مذهلة» هو الوصف الذي أطلقته اختصاصية أخلاقيات المخ والعصاب في جامعة ديوك الأمريكية نيتا فرحاني على الكشف الجديد بحسب ما جاء في دورية «نيتشر»، مشيرة إلى أنه رغم كونه في مراحله الأولى إلا أن النتائج تشير إلى آفاق جديدة للتغلب على بعض القيود الخاصة بجسم الإنسان.

جسم الإنسان يحيا ويموت، وكما أن الحياة حق، فإن الموت أيضاً حق. وهذا الكشف العلمي غير المسبوق وغيره من التجارب والابتكارات الكثيرة التي ستليه لن تغير في هذه الحقيقة الراسخة شيئاً. التغيرات ستكون في مفاهيمنا عن الحياة والموت، وكذلك في قدراتنا على إحداث تغيرات أفضل على صحة الإنسان وقدرة جسده على البقاء على قيد الحياة، ويبقى كله بعون الله.

أحد العلماء المشاركين في البحث «المذهل» يقول: «جعلنا الخلايا تفعل شيئاً لم نكن نتصور أنها يمكنها عمله من قبل بعد موت الحيوان». لكنه أضاف محذراً: «ما توصلنا إليه لا يعني أنه تم إنعاش الخنزير بعد موته. لكن تم إنعاش بعض الخلايا ووظائف الأعضاء، وهذا لا يعني عودة إلى الحياة».

وعودة إلى الحياة والإنسان على ظهر الكوكب الغارق في صراعاته ومبارياته ومعارك الطلاق والزواج بين الفنانين وما يمكن لهذا الكشف أن يحدثه من فارق في حياة مرضى قد تكتب لهم الحياة بفضل الله والعلم والأفق المستنير الذي يفتح الباب أمام العلم والبحث. ويكفي أن عدد هذا الكشف المذهل قد يؤدي بعد سنوات من البحث والتجارب إلى زيادة عدد أعضاء الجسم التي يمكن استعادتها لتهب آخرين الحياة التي وهبها الله في الأصل ومعها العقل القادر على البحث والابتكار.

Email