تحدثنا في الحلقات الثلاث الماضية عن التطور التاريخي للنظام الدولي عبر حُقُبٍ زمنية متعددة، حتى وصلنا إلى انهيار جدار برلين، ونهاية الحرب الباردة. وقد ذكرنا كيف أصْبَحَت الولايات المتحدة القطب الأوحد في العالم.

وكان لانعدام منافس دولي للولايات المتحدة أن تَمَتَّعَت واشنطن بحرية الحركة على المستوى الدولي. فعندما اجْتَاحَ العراق الكويت في العام 1990، استطاعت الولايات المتحدة أن تَحْشُدَ ما يزيد على ثلاثين دولة لتحرير الكويت. واستطاعت تَعْبِئَةَ الرأي العام العالمي ضد الغزو العراقي، كما أنها وَظَّفَت ثِقَلَهَا الدبلوماسي لتمرير قرارات في مجلس الأمن الوَاحِدَ تلو الآخَر لحصار وَشَنِّ حرب على العراق.

ورغم الانتصار الباهر إلا أنَّ واشنطن فَقَدَت اتزانها. وبسبب هذا الانتصار والتأييد الدولي والداخلي لإدارة جورج بوش الأب، بَدَت الولايات المتحدة تَعِيْشُ لحظة القطب الواحد بزهو، إذا لم نَقُلْ ببطر، حتى إنَّ بوش الأب صَرَّحَ بعد الحرب: إنَّ ما تقوله أمريكا يجب أنْ يُنَفَّذَ.

كَسَبَ بوش الحرب، ولكِنَّهُ خَسِرَ انتخابات الولاية الثانية في العام 1992 لصالح مرشح شاب من جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية. وصادف عصره انطلاق ثورة الإنترنت، والتي أنْعَشَت الاقتصاد الأمريكي. وبسبب النمو الاقتصادي الذي شهدته الولايات المتحدة، استطاع الرئيس بيل كلينتون أنْ يُعَادِلَ الميزانية الحكومية، بل يَبْقَى هناك فَائِضٌ في الميزانية، لم يحصل مُنْذُ فترة طَوِيلَة.

وهكذا جَمَعَت الولايات المتحدة القوة العسكرية والاقتصادية، وبدا يُنْظَرُ إلى واشنطن أنها روما القرن الجديد. وتَصَرَّفَت كذلك! وعندما نَشِبَت الحرب الأهلية في البلقان. وكان قَتْلُ المسلمين بالجملة من قِبَلِ الصرب، تَدَخَّلَت الولايات المتحدة لرفع المعاناة. وَقَصَفَت القوات الصربية إلى أنْ انتهت الحرب. وهنا ظَهَرَت صور المسلمين أشبه باليهود في معسكرات النازية إبَّانَ الحرب العالمية الثانية.

ولكن من منظور دولي لم يكن هناك تفويض دولي بعكس حالة غزو العراق للكويت. وتكرر نفس المشهد في كوسوفو، حين شَنَّ الناتو بقيادة الولايات المتحدة حَرَبَاً في دفاعها عن مسلمي كوسوفو، والذين أعْلَنُوا انشقاقهم عن صربيا. حينها كان الفيتو الروسي مُتَهَيِّئَاً لمنع إصدار قرار من مجلس الأمن. وبسبب القوة المفرطة للولايات المتحدة لم تأبه واشنطن للأمم المتحدة، أو الحصول على موافقة مجلس الأمن. وقد عَبَّرَت مادلين أولبرايت في العام 1998، وزيرة الخارجية حينها، عن نظرة واشنطن للعالم حين قالت «إنَّنَا نَقِفُ عَالِيَاً، ونَرَى بَعِيْدَاً أكثر من الأقطار الأخرى إلى المستقبل، ونَرَى المخاطر هنا لنا جميعاً».

ولكن الولايات المتحدة العملاقة أُصِيْبَت في كبريائها عندما هَاجَمَ ثُلَّةٌ من الإرهابيين الولايات المتحدة في 11 سبتمبر، 2001؛ وكانت الخسائر البشرية بالآلاف، والخسائر المادية بالمليارات. وَأَعْلَنَت واشنطن الحرب على الإرهاب. وَأطْلَقَت الوعيد «من لم يكن معنا فإنَّه مع الإرهاب»؛ ليس هناك منطقة رمادية. وشَنَّت الولايات المتحدة الحرب على أفغانستان، والتي كانت تَسْتَضِيْفُ مدبري الهجوم الإرهابي. كانت باستطاعة إدارة بوش الحصول على تفويض أممي لملاحقة الإرهابيين، ولكنْ أبَتْ إلا أنْ تَسْتَفْرِدَ بالقرار. وَقَامَت بنفس الفعل عندما غَزَت العراق في 2003، بدواعي امتلاك الأخير أسلحة دمار شامل.

ومن غزو العراق وحتى انتخاب الرئيس دونالد ترامب، مرت الولايات المتحدة بمراحل صعبة اختبرت فيها قوتها وتماسكها. وقد تتالت الأمور الاقتصادية والسياسية والاجتماعية حتى نتج عنها ظواهر جديدة في النظام العالمي. ما عاد الشعب الأمريكي يتحمس للمغامرات الخارجية أو ما يسميه البعض الحروب الأبدية في الشرق الأوسط وغيره من مناطق العالم. وبدأت الصين تلوح في الأفق كمنافس حقيقي بل أقوى من الاتحاد السوفييتي حيث تخطت الصين الولايات المتحدة في مؤشرات القوة. وسنرى في الحلقة الخامسة والأخيرة التحولات الكبيرة في النظام العالمي. وللحديث بقية!