صعد الإنسان القمر، وغاص في أعماق البحار والمحيطات، وابتكر مصابيح كهربائية، وتوصل إلى أدوية وعلاجات لأعتى الأمراض، واخترع السيارة والطائرة والغواصة، وتفتق ذهنه عن أسلحة بيضاء وأخرى ثقيلة وقنابل وألغام وصواريخ باليستية قصيرة ومتوسطة المدى وأخرى جوالة ومضادة للطائرات، وطور أدوات اتصاله فابتكر الهاتف الأرضي وعرف طريقه إلى الهواتف المحمولة وطورها ليصل إلى الذكية، وأطلق ثورة رقمية أحدثت زلزالاً في عوالم الأعمال والاتصالات، ويعكف على تطوير تجارب استكشاف الفضاء واستنباط الأرض واكتشاف طبقات الغلاف الجوي، وصنع فيروسات في المعامل وعكف على الوصول للقاحات وعلاجات، وشن حروباً وسعى من أجل السلام، وفي خضم كل هذا بقيت «الأسرة» الثابت في عالم متغير والفرض في كوكب يعج بالاختيارات.
كل منا يحظى باختيارات ما. هامش تنوعها قد يتسع أو يضيق. وعلى الرغم من عدم تطابقها أو مراعاة العدالة في التوزيع، إلا أن الاختيارات الأهم المتاحة للبشرية منذ بدء الخليقة تبدأ من هذه الرابطة الاجتماعية والمسؤولية الإنسانية والحقوق والواجبات التي تحوي تشكيلة ثرية من الالتزامات المادية والروابط البيولوجية والعاطفية والأخلاقية والاقتصادية والنفسية، والتي تسمى «أسرة».
نعيش في عالم متغير بطبيعته وإيقاعه ومتطلباته. ولكل عصر طبيعة وتركيبة وأولويات تميزه، لكن تبقى طبيعة الأسرة رغم كل هذه المتغيرات راسخة، أو هكذا ينبغي أن تكون. وترسخ الطبيعة لا يعني أبداً جموداً أو تحجراً أو تأخراً أو تخلفاً. بل يعني أساسات قوية لمنظومة هي نقطة الانطلاق الأولى للحياة ومحددة مسار المجتمع ككل الذي هو تجمع لعشرات ومئات وآلاف وملايين هذه الأسر.
والأسرة العربية – كغيرها من أسر الكوكب- تعاني الكثير في وجه العواصف الأخلاقية والزلازل الابتكارية التي تتواتر على رؤوس الجميع وفي عقر ديارهم على مدار الساعة. لكن للأسرة العربية طبيعة خاصة من حيث القيمة والمعنى اللذين يصلان إلى حد القداسة، وكذلك من حيث الأهمية باعتبارها الشكل الوحيد المعترف به للعلاقات بين النساء والرجال ومن يقررون إنجابهم من أولاد وبنات وذلك من حيث العادات والأعراف والأديان والقوانين.
تغير القوانين الوضعية في مسائل الأحوال الشخصية بين الحين والآخر تضفي تغييراً هنا وتجري تعديلاً هناك، لكن تظل الأسرة العربية أباً وأماً وأبناء. ورغم اختلاف الدول العربية فيما بينها من حيث مستويات الدخل والمعيشة والموارد الطبيعية والبشرية والرؤى الآنية والمستقبلية والأوضاع السياسية وحتى أخيراً في درجات الاستقرار والسلم والأمان، إلا أن الأسرة تبقى محتفظة بشكلها إلى حد كبير. لكن الاحتفاظ بـ«الشكل» لا يكفي. وليس خفياً على أحد كم المتغيرات من حولنا والتي تؤثر على كل أسرة عربية، سواء كان بيتها قصراً مهيباً أو شقة صغيرة أو حتى مخيماً للنازحين واللاجئين. والمتغيرات لم تعد سهلة أو كلاسيكية.
لم تعد تحديات الأسرة العربية ومشكلاتها انتشار المخدرات أو اختلاط المفاهيم والقيم أو سقف طموحات بعيداً عن أرض القدرات والإمكانات. كما لم تعد معضلات كلاسيكية مثل صراع الأجيال أو التعرض لمسلسل تلفزيوني يبث أفكاراً غير مستساغة أو يروج لقيم غير مقبولة هي أقصى وأقسى ما تتعرض له الأسرة من تحديات واختبارات تحمل وقوة.
قوة الأسرة العربية اليوم تنبع من مرونتها وليس جمودها. ومنذ سمعت شرحاً وافياً ومبسطاً من الراحل المفكر والكاتب وأستاذ الهندسة الإنشائية ميلاد حنا عن كيفية بناء العمارات والأبراج الشاهقة بطريقة مقاومة للزلازل، حيث اعتماد البناء على قدرة المباني – بما فيها ناطحات السحاب- على التمايل بدلاً من السقوط حال تعرضها لهزات أرضية عنيفة. هذه القدرة على التمايل توفر لها أعلى هامش صمود أمام الهزات الأرضية. هذه القدرة تعكس جاهزية المبنى لامتصاص أكبر قدر ممكن من طاقة الزلزال. وأحد أبرز وأهم الطرق للمقاومة هي كتل المطاط التي يتم وضعها تحت الأعمدة الراسخة الحاملة للمبنى.
هذه المرونة لا تسلب المباني الشاهقة أساساتها القوية. كما لا تؤثر في بنيانها وارتفاعها وأشكالها الزخرفية المختلفة. ولو تم اعتماد كود الجمود والتحجر المشتق من قوة الخرسانة وبأس الحديد وسمك الجدران بديلاً عن كود الزلازل المرن والمحافظ على الصلابة لانهار جميعها أمام أضعف الهزات وأقصرها.
أقصر الطرق لضمان مجتمعات عربية صلبة في بنيانها وقيمها لكن مرنة في مواكبتها للعصر وتواؤمها مع متطلباته وربما مشاركتها في بناء المستقبل وتحقيق قدر من الريادة هو طريق الاهتمام بالأسرة. والحقيقة أن زمن العزف الأوكسترالي على منظومة إغلاق الأبواب والنوافذ والمنافذ حتى لا تتسلل قيم غريبة أو مفاهيم مرفوضة قد انتهى. بدأ عصر رفع كفاءة الوعي وتركز الاستثمار في تعليم معرفي وثقافة مكتملة الأركان وتوفير أساسيات الحياة الكريمة التي تترك مجالاً كافياً لتوسيع المدارك وتراكم المعارف، وقبل ذلك وأثنائه وبعده وضع الأسرة العربية في قلب الأولويات وعقل التخطيط مع تطبيق كود الزلازل.