الأكاديمي الذي استهواه الأدب

ت + ت - الحجم الطبيعي

شرفت بمعرفة الدكتور سعيد حارب المهيري، ليس بصفته أديباً ألف مجموعة «القروعية» القصصية، التي صدرت عام 2015 في 183صفحة، وليس لأنه أهدانيها شخصياً بتوقيع يحمل حميمية صادقة، لا.. ليس لهذا، إنما لأنه وبعد أن تقاعد من عمله الأكاديمي والإداري في جامعة الإمارات، حيث كان أمينها العام لسنوات طوال، سارع إلى قطع تذكرة في قطار الكتابة الأدبية، مختاراً مقطورة القصة القصيرة، وهي الأكثر أناقة بين باقي المقطورات، والأشد تكثيفاً، والأصعب أسلوباً بين باقي فنون السرد الأخرى. ولا أحسب أنه قفز إليها من دون علم بخصوصيتها وتميزها بين باقي المقطورات الأدبية في قطار السرد القديم المتجدد في مسيرته، مثلما هي الحياة في حاضرها اليومي المتجدد والمستمر. 

كما فرحت له على هذا الاختيار الذي آمل أنه سيدفعه إلى آفاق أخرى أكثر رحابه، كأن يفاجئنا برواية مثلاً، أو أن يتجه إلى نصوص أخرى في فضاءات الآدب، وما أكثرها، وهو يعلمها علم اليقين، يختار منها شكلاً يناسبه، ويرى أنه القالب الذي يحقق له بعض ما يفكر فيه من أفكار، وتطلعاته التي نقدر ونحترم، ويتحفنا بما يمكن أن يمتحه لنا من منهله الثر، حيث خزين تجاربه الحياتية في مضامير الزمن على تعددها، واختلاف طبيعتها، ما أكسبته الحكمة التي نلمسها فيه اليوم، والمعرفة التي خبرناها من قبل، وتلك الرؤى والتأملات الأفقية والعموديّة، إن جاز لنا الكلام في عمقٍ على هذا المستوى. 

فبعد أن حالت بينه وبين الكتابة الأدبية، مسؤوليات أكاديمية وإدارية، وقراءات في الاختصاص، ها هو اليوم يدخل دخول الواثق غمار الكتابة الأدبية. فها هو يميط اللثام، جهاراً نهاراً، عن انحيازه الواضح إلى أهل «الكار» الأدبي، بصفتهم مكوّناً من المكونات الحيوية والمتقدمة ذهنياً في المجتمع البشري.

وعرفت الدكتور سعيد حارب المهيري أكاديمياً نشطاً، ومحاضراً شائقاً، وكاتباً مقتدراً في موضوعات شتى، عرفته في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، فكثيراً ما كنت ألمحه يدخل مقر جريدة الخليج، حيث كنت أعمل، لكن اللقاء الأول الطويل بيننا، كان في المجمع الثقافي بأبوظبي، في اجتماع مصغر عقد لمناقشة موضوع «السياسية الثقافية في الإمارات» بمبادرة من الأستاذ الأديب محمد أحمد خليفة السويدي، حضره نخبة من الكتاب والمثقفين والإعلاميين حينذاك، منهم الأديب والباحث أحمد راشد ثاني، رحمه الله.

الدكتور سعيد حارب، قليلاً ما يختلف معه أحد، لكن وإن حدث واختلفت معه في موضوع أو فكرة أو رأي، فليس بوسعك إلا أن تحترمه، لدماثة خلقه، وسعة صدره وحلمه، لتنضم بذلك إلى كثرة غالبة، مجمعة على طيب معشره، وحسن تعامله، وحسن صفاء طويته، وجرأته في طرحه للرأي، ولعمري فإن ذلك يكفيه كنزاً لا يُبلى، ورأسمال لا يُفنى. 

مجموعة القروعيّة، بقصصها الثماني، احتوت على الكثير مما يستحق الوقوف عنده والنقاش فيه وحوله؛ فالكاتب يدخل الكتابة الأدبية بحماسة عالية، وجملة رشيقة، ويذهب مباشرة إلى الغاية من العمل الأدبي، حيث همّه الأول الخروج بحكمة أو عبرة أو مثل يسير في الزمن، يتداوله الناس في منتدياتهم. وأمر كهذا، رغم مشروعيته وأهميته، قد يأتي على حساب بعض التقنيات الفنية، يعرفها الساردون على وجه التحديد، في القص والروي، ويعرفها النثّارون في نصوصهم المفتوحة. 

إن الثقافة الموسوعية لدى الدكتور سعيد المهيري، تلك التي لا تفوت على القارئ الفطن، إذ يلمسها في بعض قصص القروعيّة، تجعل من شبه اليقين أنه ذاهب بتمكن إلى موعده مع الرواية، ولعله من نافلة القول إن الروائيين لطالما احتاجوا في أعمالهم الروائية إلى مثل هذه السعة في الثقافة كالتي يمتلكها؛ فمعلوم أن الروايات هي مشروعات كبيرة يقتضي محتواها الإحاطة بالعالم، مجهوله ومعلومه قدر الإمكان، وأن يعيش لها الكاتب طويلاً، ليقرأ كثيراً، ويعطي الأجود.

من الطبيعي ألا يسمح مقال محدود الكلمات كهذا، بالتوسع في تفاصيل حول قصص مجموعة القروعيّة، بيد أن الوقت ما زال طوع اليد، فثمة متسع، كما لا يُعتقد ألا يجرى تناول هذه المجموعة القصصية الأنيقة، في أحد ملاحق صحافتنا الثقافية المعتبرة، في الساحة المحلية والخليجية. قد يكون هنالك بعض البطء أو التباطؤ في تناولها نقدياً، وهذا ليس مشكلاً على الإطلاق؛ فمعلوم أن الغيمة البطيئة هي المثقلة بالغيث.

Email