في مديح الكراهية

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما أصعب أن تهجر النساء عاشقات الحياة منزلاً، نباتات الورود ذبلت وتقصفت أعواد الريحان، لم يعد صوت المياه يثير بهجة صفاء التي اعتقدت للحظة بأن منزلنا المهجور يشبهها في كل أطوارها، فكرت بالسحر الذي تمارسه على الأمكنة، منزلنا يشبه صورتها المركونة على ترابيزة في صالون منزل بكر الضيق، تشع عيناها وسط النقاب وعبدالله يرفع بندقيته في الهواء، مرتدياً ثوباً أبيض وتحته بنطال قطني أفغاني وعلى رأسه عمامة ملفوفة، بقربهما وقف ابنهما أمير ينظر بقسوة إلى فتحة الكاميرا، صورة نموذجية لعائلة مجاهدة تشبه صور عائلات كثيرة بدأت تغزو صفحات الجرائد.

هكذا صورّت لنا بطلة رواية «مديح الكراهية» للكاتب السوري خالد خليفة، الحالة التي كانت عليها مدينة حلب في الثمانينيات من القرن الماضي، غداة وصولها إلى لندن هاربة من مدينتها، التي هرب منها قبلها أخوها بكر واستقر في العاصمة البريطانية، ولخصت لنا التحولات التي كانت تجري في تلك المرحلة، والتي قادت إلى ما حدث من تشظٍّ في عالمنا العربي بفعل الفكر المتطرف الذي أذكى الصراع الطائفي في بعض مجتمعاتنا العربية، متخذاً من الدين وسيلة لحشد كل طائفة ضد «الطائفة الأخرى».

تعبير «الطائفة الأخرى» ورد أكثر من مرة في الرواية أثناء سرد أحداثها على لسان البطلة التي تكره أبناء الطائفة الأخرى، الذين يكرهون بدورهم أبناء الطائفة الأخرى، لتتكون من هذه الكراهية المتبادلة سلسلة من دوائر العنف، ضحاياها أفراد من أبناء «الطوائف» المختلفة والمتعددة؛ سلسلة تكبر لتلتف حول عنق الوطن، محولة إياه إلى ساحة لمعارك لا تنتهي، الخاسرون فيها هم أبناء «الطوائف» المتناحرة، حتى لو صعد أبناء «طائفة» على حساب أبناء «طائفة أخرى». وهو ما أثبتته الأيام بعد سنوات من نشر الرواية التي صدرت طبعتها الأولى عام 2006م، قبل أن تجدّ أحداث جعلت منها صالحة لكل زمان ومكان، وكأنها كُتِبت لتكون رواية كل العصور والأماكن.

«نحتاج إلى الكراهية لنجعل لحياتنا معنى» فكّرت وهي تحتفل بعيد ميلادها السابع عشر، اعتقدت أنها تحتاج إلى الكراهية كي تصل إلى الحب. بدأت التردد إلى منزل «الحجة سعاد» رغم إحساسها بغربة شديدة تحاصرها وهي جالسة مع بنات تعرفت إلى أغلبهن للمرة الأولى يوم اصطحبتها هناء معها بناء على أوامر بكر وإصراره الذي لم تفهمه إلا حين بدأت «الحجة سعاد» تقسيمهن إلى مجموعات تلتقيها في مواعيد ثابتة، تحدثهن بصرامة عن الجماعة والالتزام، ينقلن إليها بحماس أخبار المدرسة وسعيهن لضم بنات أخريات إلى مجموعتهن التي بدأت تتسع وتزداد سرية وتكتماً وحماساً لتلك الدولة الموعودة، سيعاقبون الكافرين على كفرهم كما كانت تردد «الحجة إيمان» كأنها ترى ذلك اليوم وهن أخوات المؤمنين اللواتي سيجلسن في الجنة.

لا تدري من أين أتتها قوة الاعتقاد بأن طريق الجنة مفتوحة أمامها، وكل رغبتها أن تصبح شهيدة، تحملها الطيور البيض نقية مغفورة الذنوب إلى ذلك الفردوس الذي رسمته لها «الحجة سعاد» بصبر وثقة، هدأت عذاباتها، وجدت يقينها فجأة مستفيدة من قرابتها لبكر الذي خُلِق ليحقق حلم محو الفسق والفجور وإعادة أمجاد الخلافة الإسلامية.

في نهاية ذلك الصيف تملكتها الكراهية، تحمست لها، أحست بأنها تنقذها وتمنحها شعوراً بالتفوق تبحث عنه، قرأت الأوراق التي كانت تُوزّعَ عليهن في كل اجتماع بعناية، تحفظ منها مقاطع كاملة، خاصة فتاوى تكفير الطوائف الأخرى، وحين تسألها رفيقاتها عن رأيها في معاقبة من يهينون تعاليم الدين تفاجئهن حين تطالب بوضع قوائم بأسماء فتيات من بنات مدرستها، وتطلب السماح بتشويههن بماء الأسيد لارتدائهن بلوزات ضيقة تبرز نهودهن بشكل فاضح، فتلتمع عينا عليا وتطالبها بالتريث، كأنها تعرف موعد يوم القيامة.

الرواية التي اقتحمت عالم التنظيم النسائي هذه المرة، اختارها موقع قائمة «ميوزي» من ضمن أفضل 100 رواية عبر التاريخ، إلى جانب روايات كتاب كبار مثل؛ غابرييل غارسيا ماركيز، وجان بول سارتر، وأرنست همنغواي، وليو تولستوي، ونجيب محفوظ، وآخرين. (خطوة أخرى، روايتي «مديح الكراهية» في قائمة أفضل 100 رواية في العالم، لا أحد يسألني شيئاً، لا أعرف كيف، ومن، ولماذا...) هكذا علق خالد خليفة في صفحته على «فيسبوك» عندما سمع الخبر.

كل الأدباء السوريين الذين كتبوا عن مدينة حلب، أمثال خالد خليفة ومها حسن وغيرهما، أسهبوا في الحديث عن جمال هذه المدينة وتاريخها وعراقتها، وصوروا ما فعلته الطائفية والتطرف والكراهية بها.

في «مديح الكراهية» مساحة كبيرة لذم الكراهية وإبراز قيمة الحب الذي لو ساد بين أبناء الطوائف لجنّب الوطن الكثير من الويلات والحروب والانقسامات.

 

Email