لهيب الصيف وتقدير الاحتياجات

ت + ت - الحجم الطبيعي

في مشهد قلما يحدث في الخليج العربي، بعد ارتفاع الحرارة إلى سقف قياسي في تاريخ بريطانيا، ذابت أجزاء من مدرج طائرات مطار لندن لوتن. ولأنني أبعد عن هذا المطار بضعة كيلو مترات، حيث أكتب مقالي، فقد أثار فضولي ما حدث خصوصاً، لاسيما وأنني العربي القادم من أسخن بقعة في الكرة الأرضية إذ كسرت درجة الحرارة فيها حاجز 50 درجة مئوية!

كيف يذوب مدرج طائرات، في بلد التخطيط، وهل يعقل أن تتعطل السكك الحديدية كلما تجاوزت الحرارة 38 درجة مئوية لدى أمة الإنجليز التي عاشت ألف عام لحسن تدبيرها. ما حدث في الواقع أنهم لا يدفعون ما لا يحتاجون إليه.

وخدمات البنية التحتية وغيرها تقاس بالبيانات التاريخية، غير أن قانون الفيزياء قد انطبق على الأراضي البريطانية، حيث بدأت المعادن تتمدد بالحرارة وتنكمش بالبرود على نحو غير متوقع. والمفارقة أننا قلما نسمع عن ربكة من هذا النوع في البرد القارس، لكنه حدث في أسخن صيف لأن الأرقام قد تجاوزت التوقعات.

ما حدث يجرنا لمشكلة أزلية في اتخاذ القرارات. وهي المبالغة في تقدير احتياجاتنا. أتفهم التقشف عندما يتعلق الأمر بمصاريف فردية لكن التقشف المبالغ فيه في البنية التحتية قد تكون تكاليفه باهظة مستقبلاً. في آلية اتخاذ القرار مرحلة مهمة وهي «تجميع البيانات»، وكثير من أخطائنا كمتخذي قرار تكمن في طريقة أو جودة البيانات التي نستقيها من مصادر قد تكون غير دقيقة.

فليست كل جداول مرصوصة أو مزينة بالرسوم البيانية تكون مفيدة. ذلك أن الإحصائية يمكن أن تقرأ بأكثر من طريقة، وتفسر كذلك بأشكال عدة. وعندما نخطط للمستقبل فإن المبالغة في المصاريف قد تكون محمودة لتجنب تداعيات التقشف وسوء تقدير احتياجات الأمة وحتى الأفراد.

كما أن الأرقام قد تكذب. أذكر أنني سمعت إحصائياً أمريكياً لامعاً في إحدى الجامعات يقول، نحن الإحصائيين أكبر وأخطر كذابين لأننا نكذب بالأرقام التي يصدقها الجميع (مع شديد احترامي لهذه المهنة المهمة).

فهو يقصد أن الرقم حمال أوجه وقد يفهم بطرق متعددة، وفي كثير من الأحيان يرفع عن كاهل متخذي القرار تبرير عدم زيادة الميزانية والخروج من ورطة الضغوطات السياسية بالتسرع بإقرار مشاريع حيوية. فتخيل أحداً يحاول إقناعك أنه لم يحدث في تاريخ البلاد أن ارتفعت الحرارة إلى أربعين درجة مئوية، لكنه يغفل عن الاحتمالات المستقبلية والتقارير التي تستشرف المستقبل وآفاق التغيرات المناخية.

خلاصة القول إن اتخاذ القرارات يتكون من مراحل عدة لابد أن تأخذ حقها الكافي، لنصل إلى قرار رشيد. أولى تلك المراحل، «تحليل طبيعة الحالة»، ومنها الاعتراف بوجود مشكلة. فكثير من المشكلات تظل عالقة لأن متخذ القرار لم يعترف أصلاً بوجود معضلة رغم كل مناشدات من حوله.

والمرحلة الثانية «البحث عن بدائل»، ثم «تقييمها»، بعدها تبدأ مرحلة التنفيذ والمراقبة. وأكاد أجزم أن كثيراً من مشكلاتنا تكمن في آلية تنفيذ القرارات الركيكة أو المبهمة، وكذلك المراقبة. فلو أننا أوجدنا نظاماً قوياً للرقابة وأخذنا بملاحظات المدققين الخارجيين والداخليين وديوان المحاسبة أو المراجعة في المؤسسات العامة على محمل الجد لتمكنا من وضع أيدينا على مكمن الخلل.

فالمؤسسات الحصيفة هي التي لديها قرون استشعار لقرب وقوع مشكلة فتتعامل معها بطريقة استباقية قبل وقوع الفأس بالرأس. وهو الدرس الذي لم يعيه على ما يبدو من بنى سكك القطار ومدرج الطائرات في بريطانيا. ولكل جواد كبوة!

 

Email