الحنين إلى الماضي ليس خياراً

ت + ت - الحجم الطبيعي

الحنين إلى الماضي، يعتبره الكثير من الناس، أن فيه راحة نفسية، ويمنح الإنسان شعوراً أنه يوفر له فسحة نفسية زمنية، تبعده عن ضغوطات الحياة، والحد من كدر مكابدتها، فالحنين بالنسبة له، يمتلك قدرة سحرية على إشاعة الدفء والبهجة في النفس، ويسلّحها بطاقة قوية على مواجهة التحديات، والسؤال: أصحيح أن للحنين طاقة إيجابية؟ وهل ممارسته تعتبر أمراً ضرورياً للإنسان؟ والحنين، هل هو نوع واحد أم أنواع؟ ولأن أسئلة كهذه كبيرة، وتتطلب، بالتالي، كتابة طويلة مسهبة، والمقام هنا ضيق لا يسمح بذلك، لذلك، فإن الاختصار والتكثيف يعتبران أمرين لازمين.

اتسم محتوى عدد من التآليف الصادرة في الإمارات، على اختلاف موضوعاتها، بالحنين إلى الماضي، كثيمة متواترة، من بينها الأدبية والفنية، كالمسرحية والأغنية والقصيدة الشعبية. وعندما نتحدث عن الماضي، بما هو زمن انتهى وانقضى، فإننا نعني به فترة ما قبل النفط في الإمارات، أي قبل عام 1963، حيث صدرت أول شحنة نفط إلى السوق الخارجية، وقبل تأسيس دولة الاتحاد عام 1971 بـ 8 سنوات. 

وذلك الحنين، حمل داخله مبررات يمكن تفهمها إلى حد ما، فالطفرة الاقتصادية كانت أولى تلك العوامل الرئيسة التي صعب على كثيرين استيعابها بالسرعة ذاتها التي انبجست بها. وتلك «الفورة» الاقتصادية، إن جازت التسمية، التي حولت البلاد إلى ورشة بناء وتعمير في كل الأنحاء والمجالات، في دولة بدأت للتو الإعلان عن نفسها صاعدة ناهضة من ماضٍ مجزأ إلى فضاءات الاتحاد ومجده، وقوته المدفوعة بإرادة صلبة، وخطى ثابتة، ورؤية واضحة للمستقبل. 

إن بعض مستويات من الحنين إلى الماضي، الذي لا يزال يرد في بعض الأعمال الأدبية في الإمارات، كان يصعب تبريره، فالماضي الذي يعرفه الجيلان: الجيل المخضرم الذي شهد ما قبل الاتحاد، وما بعده بقليل، والجيل الجديد الذي يمكن تسميته «جيل الاتحاد». ذلك الماضي بالنسبة للجيلين معاً، لم يكن بتلك المؤهلات الحياتية التي تجعله يستحق الحنين إليه، والبكاء على ما يلوح من أطلاله، بمعنى أنه فقد أهليته لأن يستمر أكثر ما استمر، ليأخذ مساحة ومسافة نفسية أكبر، هي من حق الحاضر والمستقبل، تجدداً وتوثباً بكامل انزياحاته في مجالات الحياة كلها.

وبالإمكان القول، إذا ما سمحنا للماضي احتلال مساحة الحاضر، والتمدد فيها، فستكون ولادة المستقبل عسيرة وباهظة الثمن. هذه حقيقة بتقديري أثبتها الاتحاد بعد قيامه، حيث بيّن بالملموس والعين المجردة، أن ما قبله من زمن - رغم ما قد يكون فيه من جماليات خاصة، ممثلة في بعض العادات والسلوكيات المضيئة، وكذا القيم الحميدة - رغم ذلك كله، فإنه لا يجب أن يتمدّد الماضي بكل ما فيه، ليشمل مساحة ما بعد قيام دولة الاتحاد، الزاخرة بالإنجازات والنجاحات، وسبل الرخاء والرفاه المجتمعي، التي أسهمت فيها مجموعة من المعطيات، استثمرتها الدولة بدءاً من عقد السبعينيات، وما أعقبه من عقود، من بينها السياسية الرشيدة، والطفرة الاقتصادية، وعمادها الثروة النفطية، وخطط التنمية المتوازنة. هذه كلها مجتمعة، كان من شأنها ترسيخ اللبنات الأولى لانطلاقات الحداثة بمفهومها الصلب، التي تجلّت أكثر ما تجلت في مجاليّ العمراني والمؤسسي، حتى الأمس القريب، بعدها، انطلقت دولة الإمارات نحو فضاءات مستقبلية لا حصر لاتجاهاتها، مفتوحة على زمن سريع، بمستحدثاته العمرانية والحقوقية والتقنية والحضارية كافة.

من هنا، يجد المرء نفسه في شكل ما، يقف ضد الحنين إلى الماضي، كثيمةٍ تتواتر في العديد من التآليف الأدبية والفكرية في الإمارات، ليؤكد على أن إنسان الاتحاد، مؤهل ليحيا في الحاضر، في الزمن الراهن، لا في الزمن الماضي، الذي مرَّ وانقضى، رغم ما في هذا الحاضر من تحديات تقتضي المواجهة، لا الهروب إلى خيمة الماضي الهشة أمام الريح. كما أن إنسان الاتحاد، وهو يصرّ على رفضه الالتفات إلى الماضي، أو جوانب منه، فهو في الوقت نفسه، يصرّ عل تطوير معارفه وإمكاناته ومهاراته الذاتية، بحيث يستطيع أن يحيا الحاضر بتحدياته وجمالياته معاً، وأنه يتقبّل بثقة قوية، مطالع المستقبل بما هي عليه، من دون خوف أو ارتياب بذاته وقدراته، فهو يعلم تمام العلم، أن اليد المترددة لا يمكنها أن تبني حضارة.

إن الحنين إلى الماضي، يكاد في جانب منه أن يكون هروباً من الحاضر وتحدياته، بينما الواجب، بدلاً من ذلك، المواجهة، وتحمل تبعات التعامل، بغية مواكبة المستقبل وتحولاته، مهما كانت أحماله ثقيلة، وحالة المكابدة مهما كبرت واتسعت، الفرار أمامها خيار بائس، بينما الأسلم والأفضل، والطبيعي، هو الانحياز إلى خيار المواجهة والاستمرار، وألا نلقي بالاً لسحر خيمة الماضي، فنجدد أطنابها، ونقيم فيها، لا نبرحها إلى موقع متقدم وجديد، هو الحاضر الراهن بكل ما فيه.

Email