في الحلقتين الماضيتين تحدثنا كيف تطور النظام الدولي منذ اتفاقية وستفاليا والتي اعترفت للدول الأوروبية بسيادتها على أراضيها وسكانها بغض النظر عن انتمائهم الديني إلى أن وصلنا إلى الحرب العالمية الثانية. وحينها تشكل نظام عالمي ثنائي القطب. ودخلت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في مواجهة علنية عرفت بالحرب الباردة.
وانقسم العالم إلى معسكرين الأول بقيادة الولايات المتحدة وهو المعسكر الغربي الرأسمالي والليبرالي، والثاني هو المعسكر الشرقي الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي. وأخذ الصراع على نحو مختلف من الصراعات السابقة في القارة العجوز والتي طالما شهدت حروباً كثيرة بين القوى المختلفة.
إلا أن البعد الأيديولوجي في الصراع بين القطبين الرئيسيين أجج المواجهة. وتشكل على هذا الأساس حلفان رئيسيان عرفا بحلف الناتو والذي ضم الدول الغربية، وحلف وارسو والذي ضم دول أوروبا الشرقية الواقعة تحت النفوذ السوفيتي.
ولما قد استقلت كثير من البلدان في الشرق الأوسط، وآسيا، وأفريقيا، فقد انضوت تحت هذين القطبين لأسباب اقتصادية وأمنية وسياسية. وانتقل الصراع إلى هاتين الجبهتين بين المعسكرين. وأصبح ميدان الصراع بين القطبين محتدماً بين هذه الدول حديثة الاستقلال.
أما البعد الثالث فهو دخول الأسلحة النووية كعامل مهم في المواجهة بين القطبين. فبعد أول هجوم نووي من قبل الولايات المتحدة ضد اليابان في نهاية الحرب، شرعت دول عدة في محاولة لاقتناء هذه الأسلحة. وكان الاتحاد السوفييتي السبّاق في امتلاك الأسلحة النووية بعد الولايات المتحدة. ومن المفارقة أن هذه الأسلحة الفتاكة منعت المواجهة بين القطبين، ودفعت مواجهتهما إلى الدول النامية كحرب بالوكالة.
ورغم كل المحاذير بين الطرفين لتجنب الالتماس إلا أنهما دخلا في مواجهات مباشرة أو قريبة لحرب كونية. ففي العام 1948، قام الاتحاد السوفييتي بقطع المعابر على الجزء المحتل من قبل الدول الغربية. وبالتالي قطع التموين عن برلين الغربية. وقامت الدول الغربية بطلعات جوية لتموين المدينة إلى أن رفع السوفييت الحصار عن المدينة 1949.
وبعدها بأقل من عام قامت الحرب الكورية والتي تواجه فيها المعسكران في حرب ضروس كادت أن تؤدي إلى حرب عالمية ثالثة لولا أن وضع خط للهدنة بين شمال كوريا وجنوبها والذي لايزال قائماً إلى يومنا هذا. وقد سقط في تلك الحرب ما يزيد على خمسة ملايين نسمة.
وهناك أمثلة أخرى على قرب التصادم بين العملاقين إبَّان الحرب الباردة. ولكن أسوأ لحظاتها تمثلت في أزمة الصواريخ في كوبا. حينها نشرت موسكو صواريخ نووية على الجزيرة والتي تبعد 90 ميلاً من الولايات المتحدة. أمر الرئيس جون كنيدي بحصار بحري، وهدد بإزالة هذه الصواريخ بالقوة العسكرية. وقد كبت العالم أنفاسه لتوقعه حرباً نووية بين القطبين.
إلا أن المساعي الدبلوماسية أقنعت الطرفين بتقديم تنازل متبادل، حيث وافق السوفييت بتفكيك الصواريخ في كوبا مقابل أن تنقل واشنطن صواريخها من تركيا. وحينها تنفس العالم الصعداء.
واستمرت الأحول على هذا المنوال بين شد وجذب بين القوتين العظميين إلى أن انهار جدار برلين ومن ثم تفكك الاتحاد السوفيتي، إيذاناً بنهاية الحرب الباردة. وتربعت الولايات المتحدة على عرش العالم كالقوة الأوحد دون أي منافس. وأصبح النظام الدولي أحادي القطب لعلها للمرة الأولى في العصر الحديث. فالأربعة القرون المنصرمة شهد العالم عدة قوى متنافسة دون سيطرة قوة واحدة.
فترة ما بعد الحرب الباردة شهدت تطورات كبيرة كان لها أثر كبير. ولكن لحظة الأحادي القطبية لم تدم لأسباب لا يتسع المجال لتعدادها. ولكن للحديث بقية.
* كاتب وأكاديمي