«بذرة» العدوى في «بيئة الإبداع»

ت + ت - الحجم الطبيعي

تحظى الدراسات حول ظاهرة الإبداع في مختلف دول العالم، ومنذ عشرات السنين، بأقصى درجات الاهتمام، خاصة من لدن المؤسسات الأكاديمية والاقتصادية، وذلك لما لهذه الظاهرة من دور غير تقليدي في رفد شجرة المعرفة بغصون خضراء جديدة من جهة ورفد اقتصادات الدول بقنوات هي في أمسّ الحاجة إليها في سياق المنافسة على إشغال مواقع متميزة في الأسواق العالمية من جهة أخرى.

الاهتمام هذا لم يستثن معلماً من معالم هذه الظاهرة التي نسلط بعض الضوء في هذه المقالة على أحدها وهو البيئة التي تنتعش فيها.

ينتشر الإبداع في بيئة معينة بعامل أشبه بعامل «العدوى» إذا توافرت الظروف المناسبة لانتشار ما يمكن تسميته «بذرة» الإبداع. وللدلالة على دور «العدوى» أو «الاقتداء» بمن هو متميز ومتفوق في العطاء في البيئة المباشرة نستعرض إنجازات سلسلة امتدت على مدى يقرب من المئتي عام من العلماء المرموقين جداً في حقول اختصاصاتهم.

فعالم الكيمياء الحياتية هانس كريبس الحائز جائزة نوبل لعام 1953 لدوره في اكتشاف دورة حامض الستريك كان من تلامذة أوتو وربرغ الحائز جائزة نوبل لعام 1931 الذي لعب دوراً هاماً في اكتشاف بعض خصائص الخلايا السرطانية التنفسية كان هو الآخر من تلامذة أميل فيشر الحائز الجائزة لعام 1902 الذي له إسهامات مميزة في كيمياء السكر.

وفيشر بدوره كان أحد تلاميذ أدولف فون باير الذي له دور رائد في كيمياء الأصباغ. أما المعلم الخاص للعالم فون باير فهو رينهارد كيكول الذي اكتشف التركيبات العضوية المغلقة مثل جزيء البنزين، وكيكول هذا كان أحد تلامذة جوستس فون لايبغ الذي يعتبر أباً للكيمياء العضوية.

أما المعلم الخاص للعالم جوستس فون لايبغ فهو أحد عمالقة الكيمياء اللاعضوية العالم المعروف جوزيف لويس غاي لوساك الذي اكتشف عدداً من قوانين الغازات المعروفة باسمه والتي تدرس حتى الآن في معظم جامعات العالم. وكان غاي لوساك أحد تلامذة العالم كلود لويس بيرثوليت الذي ساعد في وضع مفهوم الاحتراق وأحد مؤسسي كيمياء المركبات، مركبات الكلورين والأمونيا والسايانيد.

والعالم بيثوليت هذا كان أحد تلاميذ العالم الشهير أنطوني لورنيت لافوازيه الذي أعدم ضمن من أعدمتهم الثورة الفرنسية. وعلى ذلك فإن هذه الشجرة «العائلية» المكونة من «المعلم والتلميذ» التي استمرت قرابة مئتي سنة دون انقطاع وحافظت على بقائها بفعل حضور «بذرة» الإبداع وهي «الإنسان المبدع».

الإنجازات المتميزة لبعض من لم ترد أسماؤهم في هذه السلسلة من العلماء مصحوبة بالحصول على جائزة نوبل تعود لفترات زمنية سبقت العمل بهذه الجائزة التي وضعت للمرة الأولى وجرى التعامل مع آليات منحها منذ العام 1901 وإلا لحصل العديد منهم بكل تأكيد على هذه الجائزة.

إن حُمى العدوى الإبداعية يمكن ملاحظتها في مؤسسات البحث أو المؤسسات الصناعية التي تحتوي على وحدات لتطوير الإنتاج. فالمؤسسة الشهيرة المعروفة باسم مركز أو مختبر «بيل» Bell Laboratory في مدينة سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة الأمريكية أحد الأمثلة الناصعة على ذلك، حيث حصل سبعة من العاملين فيه على جائزة نوبل.

وحقق هذا المختبر من الإنجازات ما لم يحققه مختبر آخر غيره في العالم، إذ ليس هناك مختبر واحد استطاع أن يقدم للعالم من ضمن ما قدم إنجازات ترقى بأهميتها إلى مستوى أهمية الترانسستور والليزر والألياف البصرية التي تكمن وراء الثورة التي نعايشها الآن، ثورة المعلومات والاتصالات.

كما أن سجل هذا المختبر الذي باشر عمله في العام 1880 على الرغم من أنه تأسس رسمياً في العام 1925 لم يقتصر على تقديم إنجازات مدوية في أهميتها كالتي ذكرناها وإنما تجاوز ذلك إلى حصوله على أضخم سجل لبراءات الاختراع، فخلال مدة نصف قرن من عمره قدم «31800» براءة اختراع بما يعادل براءة اختراع واحدة في اليوم الواحد تقريباً.

إن المؤسسة الحريصة على تطورها وديمومة حضورها بحاجة إلى وضع «بذرة» الإبداع ورعايتها والسماح لها بالانتشار، فوجود شخص مبدع في أحد مواقع العمل يُمكن للإدارة أن تجعل منه نموذجاً للآخرين للاقتداء به.

 

Email