الأطفال الذين كُنّاهم دائماً

ت + ت - الحجم الطبيعي

حقّاً، من الممكن ألاّ نكبر. حتى وإن كنا نتقدم في العمر، فبإمكاننا أن نبقى الأطفال الذين كنّاهم دائماً. نتذكر أنفسنا كما كنا وقتها، ونشعر أننا لم نتغير. لقد جعلنا من أنفسنا ما نحن عليه الآن، ولكننا نبقى كما كنا برغم السنين. نحن لا نشيخ بدافع ذاتي من أنفسنا، فالزمن يدفعنا دفعاً إلى التقدم في العمر، ولكننا نحن لا نتغير.

كان هذا هو التعليق الذي تلا المحادثة التي جرت بين «أ» وصديقه «و» في الكتاب العاشر من «كتاب الذاكرة» الذي يمثل القسم الثاني من رواية «اختراع العزلة» للكاتب الأمريكي بول أوستر. كان «و» يتحدث عن الرجل إذا شاخ.

بلغ «و» السبعين من عمره، ضعفت ذاكرته، ووجهه مجعد مثل كفٍّ نصف مغلقة. كان ينظر إلى «أ» برأس مرتعشة، وقال له مشيراً إلى أعراض الشيخوخة بخفة دم، ولكن بوجه دون تعابير: «ما أغرب أن يحدث هذا لطفل صغير!».

عندما كان «أ» في باريس، قام بزيارة أرملة الشاعر جون فولين بخصوص أنثولوجيا للشعر الفرنسي كان يُعِدّها (مات فولين في حادث سيارة عام 1971 قبل انتقال «أ» إلى العيش في باريس بأيام معدودة). تلك الأنثولوجيا هي ما أجبرت «أ» على العودة إلى أوروبا.

عرف بعد ذلك مباشرة أن مدام فولين هي ابنة الفنان موريس دينيس، وكانت مجموعة لا بأس بها من لوحات أبيها معلقة على حيطان شقتها. كانت حينها في أواخر السبعينيات من عمرها، وربما الثمانينيات، وقد أُعجب «أ» بصلابتها الفارسية، وصوتها الأجش، وإخلاصها لأعمال زوجها المتوفى.

حملت إحدى اللوحات المعلقة في شقتها عنوان «مادلين في شهرها الثامن عشر». كتب دينيس ذلك على الجزء العلوي من قماش اللوحة. إنها نفسها مادلين التي كبرت لتصبح مدام فولين، والتي سألت «أ» للتو أن يتفضل بالدخول إلى شقتها. وللحظة، دون أن تنتبه لذلك، وقفت مدام فولين أمام تلك اللوحة التي رُسمت لها قبل ثمانين عاماً تقريباً.

وبما يشبه قفزة هائلة عبر الزمن، رأى «أ» أن وجه الطفلة في اللوحة ووجه المرأة الواقفة أمامه يتشابهان تماماً. هكذا، في تلك اللحظة، شعر بأنه قد عبر خلال وهم الوقت الإنساني المحسوب، واختبر الزمن كما كان عليه: ليس سوى رمشة عين. لقد شهد حياة كاملة تقف أمامه، وخلال لحظة واحدة رآها تنهار كلها في صورة.

هل صحيح أن الزمن «ليس سوى رمشة عين» كما رآه «أ» أثناء وقوفه أمام لوحة مادلين التي كبرت لتصبح مدام فولين؟

قد يكون هذا سؤالاً من الصعب أن يتفق الجميع على إجابة واحدة له. ربما كانت الحياة تدفعنا إلى الموافقة على هذه الفكرة، لكنّ سؤالاً آخر يبرز هنا: هل يصل الإنسان إلى طرح مثل هذه الأسئلة عندما يتقدم به العمر، أم أن هناك من يطرحها في بداية حياته؟ ربما لا ندرك هذا إلا عندما يمضي بنا العمر حتى نغدو في خريفه الأصفر، أو على مشارف هذا الخريف. في ربيع العمر الأخضر، أو الوردي إذا شئتم، ثمة أشياء كثيرة تشغلنا عن طرح مثل هذه الأسئلة.

كان بول أوستر قد قرر تأليف كتابه هذا وهو في طريقه إلى بيت والده بعد أن بلغه خبر وفاته. كان يرغب في استرجاع حياة والده الذي لم يعرفه، لكنه اكتشف أن والده لم يترك وراءه أي أثر كي يكتب عنه. كان دائم الغياب إلى درجة أن الجميع اعتادوا على غيابه، وعلى العزلة التي فرضها على نفسه. تناول أوستر في قسم الكتاب الأول الذي أسماه «بورتريه لرجل غير مرئي» عزلة والده الراحل، بينما تناول في القسم الثاني من الكتاب الذي أسماه «كتاب الذكريات» عزلته هو.

إلى أي مدى يمكن أن تكون العزلة أمراً حتمياً علينا أنْ نخترعه إنّ لم نجده في حياتنا، وأيّ نوع من العزلة هذا الذي علينا أن نخترعه؟ ربما يحاول بول أوستر في كتابه هذا أن يقول لنا إن لكلٍّ عزلته الخاصة. فهل هذه هي الفكرة الوحيدة في الكتاب، أم أن ثمة أفكاراً أخرى علينا أن نكتشفها؟

ربما تبدو لنا فكرة «ألاّ نكبر» رائعة هي الأخرى، لكنها أقرب إلى الأمنية منها إلى عالم الواقع، فنحن لا نكبر بإرادتنا، ولكن بفعل قوانين الحياة التي لا نستطيع تغييرها أو تحويل مسارها. فلنكبر إذاً برغم إرادتنا مدفوعين بمرور سنين العمر، المهم هو ألاّ تشيخ نفوسنا كي نبقى الأطفال الذين كنّاهم دائماً.

 

Email