الرؤية والتحدّي

ت + ت - الحجم الطبيعي

في قلب كل قائد ومفكّر هناك مصطلحات ومفاهيم عميقة الحضور والتأثير في تفكيره ومسار حياته، ويشكل مصطلحا «الرؤية والتحدي» حضوراً عميقاً في فكر ووجدان صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، حيث نلاحظ قوة التأثير لهذين المصطلحين في تفكير صاحب السمو واهتمامه بتوظيفهما في سياق خطته الواضحة في خلق حالة من الوعي بالذات والتحفيز الدائم للطاقات من خلال هذه الومضات القيادية الرصينة التي ينشرها على حسابه الشخصي في سعي مشكور نحو تعميق الحس بالمسؤولية الوطنية لدى الأجيال القادمة، وتقديم أصفى أنماط الخبرات لفرق العمل الساعية مع صاحب السمو في بناء الوطن وإعلاء شأنه ومكانته بين الشعوب والأمم، وقد تم تتويج هذا الاهتمام الصادق بالرؤية والتحدي في الكتاب الثمين الذي أبدعه صاحب السمو ونشره بعنوان «رؤيتي: التحديات في سباق التميز»، حيث أودعه أعمق الخبرات، وقدم فيه نموذجاً مدهشاً من اتساع الرؤية وروعة التحدّي.

في هذا السياق من الاهتمام المتواصل من صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد بتعميق ثقافة الإنجاز والإبداع من خلال الاهتمام بمعايير الشخصية القيادية، نشر صاحب السمو ومضة قيادية على حسابه في «إنستغرام» ركز فيها على ثنائية الرؤية والتحدي، وأنّه كلما اتسعت الرؤية اتسع مجال التحديات لينتهي إلى القول بأنّ الحياة لا قيمة لها حين تكون خالية من التحديات، وهي ومضة تذكرنا على نحو بديع بومضة سابقة كان صاحب السمو قد نشرها قبل عام ونيّف حول هذه الفكرة، ولكن بشكل مختصر، وقد سبق لي كتابة قراءة لها بعنوان «ومضة التحدي والمخاطرة»، ليكون في هذا أوضح الدليل على عمق حضور هذه الفكرة في عقل صاحب السمو وتفكيره.

«عليك أن تحدّد المساحة التي تودّ أن تتحرك فيها، فهناك من يملك الرؤية، وهناك من لديه رؤية محدودة ويعمل ضمن إطار ضيق» بهذا الوضوح الجازم يؤكّد صاحب السمو على ضرورة توضيح المساحة التي يريد المخطط والقائد أن يتحرّك فيها، لأنّ تحديد المساحة هو الخطوة الأولى والمركزية التي يتأسس عليها ما بعدها من الخطوات، فمن أراد لدولته أن تكون دولة عادية تنافس ضمن المحيط القريب بها فمن المؤكّد أنّ خططه ستكون متحركة في هذا المجال الذي تم تحديده، ولكن إذا اتسعت مساحة الأفق المنظور أمام القائد، وطمح بنظره نحو منافسة عالمية فهذا يعني بالضرورة انقلاب الخطة، وتحديد مساحة شاسعة للحركة والإنجاز، ومن أروع الأمثلة النابضة بالدلالة على ذلك أنّ صاحب السمو ومنذ شبابه الباكر وضع نُصب عينيه أن يكون مطار دبيّ متفوّقاً على مطار هيثرو في لندن، أحد المطارات الكبرى على مستوى العالم، وهذا يعني بالضرورة توسيع مساحة التحدي لتصبح على رقعة عالمية، وهو ما تمّ إنجازه بفضل المساحة الأولى التي تحرّك فيها صاحب السمو في هذا الإنجاز الكبير على وجه التحديد، وهذا مرتبط بقضية في غاية العمق هي امتلاك الرؤية، فهناك من يمتلك الرؤية الواسعة الرحبة التي تقتضي بذل أقصى الجهد في الإبداع والتقدم، وهناك من يتحرك ضمن رؤية ضيقة ومنظور محدود لا يسمح له إلا بالإنجازات المتواضعة التي ترتبط قطعاً بالمساحة المفترضة التي يفترضها العقل قبل الشروع في عملية التنمية والبناء.

«أما نحن، فرؤيتنا أن نكون في المرتبة الأولى، سواءٌ كان ذلك في مجال الخطوط الجوية أو الخيول أو غيرها» في هذا المقطع الثمين من هذه الومضة البديعة يُفصح صاحب السمو وبكل ثقة واقتدار عن الهوية العملية لشخصه الكريم وفرق العمل التي تعمل معه وتجسد بالتالي الرؤية العامة للدولة، فيجزم صاحب السمو بأنّ الرؤية العامة للدولة ولصاحب السمو هي أن تكون المرتبة الأولى في كل شيء هي المطلب الذي لا يمكن التنازل عنه، ومعلومٌ حجم الكلفة العالية التي يقتضيها هذا الهدف السامي، لكنّ صاحب السمو قد رسّخ هذه الثقافة في الوجدان العام لأبناء الوطن، بحيث أصبح هاجساً عميق الحضور في الشخصية الوطنية، وبحسب رؤية صاحب السمو فإنّ المركز الثاني لا قيمة له مقارنة بالمركز الأول، ثم يضرب أمثلة حية على هذه الإنجازات الرائعة التي تفوّقت فيها الإمارات على كثير من دول العالم المتقدم لا سيما في مجال الخدمات الجوية، حيث تحتل طيران الإمارات مكانة مرموقة على المستوى العالمي، وكذا القول في سباق الخيول، حيث تحتضن دبي السباق العالمي للخيول كل عام وتحقّق أعلى النتائج، فضلاً عمّا تحقّقه خيول صاحب السمو في السباقات العالمية الشهيرة ولا سيما في إنجلترا، إلى غير ذلك من الإنجازات الفريدة التي كان الوطن فيها في أعلى مستويات التميز كالذي رأيناه في «إكسبو 2020 دبي»، حيث تفوّق هذا المعرض على جميع المعارض السابقة على مدى مئة وسبعين عاماً، لتظل الإمارات كلّ الإمارات مسكونة بهذا الهاجس الأصيل الذي يحقّق لها كل هذه المكتسبات الحضارية المتميزة.

«يجب أن تنفّذ رؤيتك، اغتنم الفرص، تمسك بالفرص ولا تتخلَّ عنها، اغتنم الفرص قبل الآخرين».. ويواصل صاحب السمو شحذ الهمم وتحفيز الطاقات من خلال هذه اللغة المفعمة بالتحدي والإرشاد والحث على اقتناص الفرص التي لا تسمح بها الظروف في كلّ وقتٍ وحين، فتنفيذ الرؤية مرهونٌ باغتنام الفرص، فمن لا يهتبل الفرصة فهو العاجز بالضرورة عن تنفيذ خطته، وهذا يعني الإمساك بقوة على الفرص والعضّ عليها بالنواجذ، وعدم التخلي أو مجرد الشعور بارتخاء القبضة فإنّ ذلك سيكون ذريعة للفشل والكسل اللذين يمقتهما صاحب السمو ويدعو إلى نبذهما كمصطلحين ولفظين من معجم الحياة، ولأنّ الحياة مكتظة بالآخرين الذين ينافسونك على الفرصة يدعونا صاحب السمو إلى الدخول في سباق الفوز بالفرصة قبل الآخرين، فإن اغتنام الفرصة من تمام العقل ومقتضى الحكمة:

إذا هبّتْ رياحك فاغتنمها

                فإنّ لكلّ خافقة سكونا

«الحياة مملة بدون التحديات» ثمّ كانت هذه الخاتمة الرائعة التي تستحق التدوين بماء الذهب وخلاصتها: أنّ الحياة الروتينية الهادئة إلى حد الاصفرار لا قيمة لها، بل إنّ الحياة الحقيقية هي التي تستمد قيمتها من نهر الإنسانية الهادر المليء بالفرص والتحديات، الذي يوجب على الإنسان الإفصاح عن طاقاته الحقيقية، فمن دون التحدي والبحث الحثيث عن الفرص فلن يكون للحياة طعم على الإطلاق، وهو ما عبّر عنه صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد بمثال في غاية الروعة والجاذبية حين افتتح كتابه «رؤيتي» بقوله: «مع إطلالة كل صباح في إفريقيا يستيقظ الغزال مُدركاً أنّ عليه أن يُسابق أسرع الأُسود عَدْواً وإلا كان مصيره الهلاك، ومع إطلالة كل صباح في إفريقيا يستيقظ الأسد مُدركاً أنّ عليه أن يعدوَ أسرع من أبطأ غزال وإلا أهلكه الجوع»، ليكون هذا المثال البديع تجسيداً حيّاً لفكرة الفُرص وضرورة انتهازها والاستعداد الدائم لاقتناصها في الوقت المناسب.

Email