في المقالة السابقة «تطور النظام العالمي (1)» تحدثنا عن التلقائية في استخدام عبارة النظام الدولي دون وعي بأصول وتطور النظام الدولي. وقد تابعنا تطور النظام العالمي منذ وستفاليا في العام 1648 إلى القرن التاسع عشر.

ونتابع في هذه المقالة مأسسة النظام الدولي خلال القرن العشرين الطويل.

يتميز القرن العشرون بحربين عظميين، عرفتا لاحقاً بالحرب العالمية الأولى والثانية. وقد أدت هاتان الحربان إلى تغيير بنيوي داخلي وخارجي. الداخلي لا يهمنا هنا إلا القول إنَّ الحرب العظمى أنهت بقايا النظام الأرستقراطي الأوروبي والذي ينزع إلى الحروب أكثر من الطبقة البرجوازية التي خلفتها. أما التحول البنيوي الخارجي فيتعلق بتغير في توزيع القوة بين اللاعبين الرئيسيين على المستوى الدولي كما سنرى.

ولما خرجت ألمانيا من وحدتها قوية، استبد بها الطموح لأن تكون قوة عظمى في أوروبا، وقد نظمت في برلين المؤتمر المعروف بالتدافع على أفريقيا لتحديد المصالح الاستعمارية للدول الأوروبية لتقاسم مصادر القارة البكر في 1884. وبحلول القرن العشرين، لم تبقَ دولة أفريقية إلا كانت ترزح تحت الاستعمار الأوروبي—باستثناء إثيوبيا وليبيريا.

وأخذت قوة ألمانيا في التنامي وشرعت قوتها البحرية في التصاعد وهو ما أقلق بريطانيا من نوايا برلين تجاه القوة البحرية الأولى في العالم حينها، بريطانيا العظمى. ورغم القرابة الأسرية بين العائلتين الحاكمتين في بريطانيا وألمانيا إلا أن صراع القوة لم يشفع لصلات الدم من دور. ونشبت الحرب العظمى (1914 - 1918) بين التحالف الثلاثي (أو الوفاق الثلاثي: بريطانيا، فرنسا، وروسيا) ودول المركز (ألمانيا، الإمبراطورية النمساوية-المجرية، والدولة العثمانية). وانضمت الولايات المتحدة في آخر الحرب مع التحالف الثلاثي.

وخرجت ألمانيا مدحورة في الحرب العالمية الأولى وفرض عليها اتفاقية سلام مهينة عرفت بمعاهدة فرساي. حملت المعاهدة ألمانيا مسؤولية الحرب وفرضت عليها تعويضات مالية أهلكت الاقتصاد الألماني؛ والأهم أنها مهدت لما هو قادم. وقد تلاشت الإمبراطورية النمساوية إلى مكوناتها القومية والتي برزت منها عدة دول. كما أن تركة الإمبراطورية العثمانية (رجل أوروبا المريض) قسمت من قبل بريطانيا وفرنسا في الاتفاقية الشهيرة «سايكس-بيكو». وبقيت الدول العربية المقسمة تحت الانتداب من قبل الدولتين.

ما يهمنا هنا هو الاستمرار في النظام المتعدد الأقطاب للنظام الدولي؛ إلا أنّ الثورة البلشفية وبروز الاتحاد السوفييتي أثناء مخاض الحرب العالمية الأولى سيؤدي إلى أبعاد جديدة تتعلق بالجانب الأيديولوجي للعلاقات الدولية. كما أن من نتائج الحرب بروز أنظمة شمولية في غرب أوروبا (إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية) والنظام الشيوعي في الاتحاد السوفيتي.

وبدأت إرهاصات الحرب العالمية الثانية منذ زمن، ولكن الغزو الألماني لبولندا في 1939 كان السبب المباشر لاندلاع الحرب العالمية الثانية، وخرجت ألمانيا وإيطاليا مهزومتين وانتهى النظامان الفاشي والنازي في إيطاليا وألمانيا. وتحول العالم من نظام متعدد الأقطاب إلى نظام ثنائي القطب: واندلعت الحرب الباردة بين حليفي الأمس الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي اللذين خاضا غمار الحرب العالمية كتفاً بكتف.

ومع نهاية الحرب العالمية الثانية بدأت واشنطن تتوجس من صعود الاتحاد السوفييتي وسيطرته على شرق أوروبا والتي شهدت سيطرة الشيوعيين على أنظمتها السياسية. وقدد تمدد نفوذ— بل سيطرة — موسكو إلى برلين حيث انقسمت إلى دولتين غربية تحت نفوذ واشنطن، عرفت بألمانيا الغربية، وألمانيا الشرقية والتي أصبحت من حلفاء موسكو خاضعة لنفوذها. وكانت برلين العاصمة الموحدة لألمانيا نقطة التماس بين حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة، وحلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفيتي. وللحديث بقية!