صفوف أمامية في النظام الجديد

ت + ت - الحجم الطبيعي

الشواهد والحوادث والأحداث تؤكد أننا بصدد نظام عالمي جديد. وسواء هذا النظام جرى التخطيط له مسبقاً، أو نجم عن سلسلة من المجريات الكبرى غير المسبوقة في العصر الحديث في مشارق الأرض ومغاربها، فإن النتيجة واحدة.

علينا التأقلم والتعايش، وحبذا حجز أماكن لنا كعرب في الصفوف الأمامية. فالصفوف الأمامية للأقوياء. وفيها تكون المشاركة مضمونة مقارنة بالصفوف الخلفية، حيث الاكتفاء بالمشاهدة والتأثر بما يجري.

جرت مياه عاصفة وهادرة تحت الجسر، منذ ألقى الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الأب خطاباً أمام الكونغرس في عام 1990 عنوانه «نحو نظام عالمي جديد». وقتها اعتبر بوش الأب أن انهيار الكتل الخرسانية والأسلاك الشائكة وانتهاء النزاعات الكبرى على الأرض، وكذلك الحرب الباردة بداية لنظام عالمي جديد، وكأن انهيار الشيوعية وحده كفيل بترسيخ نظام رائع جديد.

تحدث بوش عن الظروف التي باتت موائمة لبلورة نظام جديد قائم على «مبادئ العدالة والسلوك المنصف كي تحمي الضعفاء من الأقوياء». وأسهب في الحديث عن تصوره آنذاك للنظام الجديد المفعم بالحرية واحترام حقوق الإنسان وغيرها من معالم النظام الوردي المبهر الذي بدا وكأنه يلوح في الأفق.

لكن الأفق لم يتسع كثيراً لأي مما سبق، لكنه اتسع لرواج مذهل لعبارة «النظام العالمي الجديد». ورغم ذلك بقيت العبارة عصية على التعريف، وعلى الأرجح فاقت جاذبيتها الشكلية والصوتية جهود فهمها.

اليوم، تبقى العبارة الأكثر رواجاً. وفي العامين الماضيين، حققت انتعاشة غير مسبوقة عبر موجتين. الموجة الأولى تسبب فيها وباء كورونا، والثانية نجمت عن الحرب الروسية الأوكرانية. وواقع الحال يشير بالفعل إلى تشكل نظام عالمي جديد ما يحركه الحدثان الجللان وآثارهما الأكثر جللاً التي لم تترك ركناً في العالم إلا وألقت بظلالها عليه.

لكن الظلال وحدها لا تكفي لأن يحجز العرب - أو من يرغب منهم - لأنفسهم مكاناً في الصفوف الأمامية. العناوين الرنانة كثيرة. «بوتين يشدد على قوة روسيا وسيادتها في النظام العالمي الجديد» «بايدن يلمح إلى نظام عالمي جديد في أعقاب حرب أوكرانيا» «الصين تعيد تمركزها في النظام العالمي الجديد» «فرنسا تجتهد لإفساح مكان لها في النظام العالمي الجديد» «ألمانيا تعاود التسلح في النظام العالمي الجديد» «اليابان تدعو لنظام عالمي جديد» «مسمار جديد في نعش النظام العالمي الجديد» «رئيس وزراء إسرائيل يؤكد أن النظام العالمي الجديد يتغير» «هل تلحق تركيا بالنظام العالمي الجديد؟» «أين موقع الشرق الأوسط في النظام العالمي الجديد؟» «كيف يؤمن العرب لأنفسهم مكاناً في النظام العالمي الجديد؟».

مئات العناوين تتواتر وآلاف الأسئلة تُطرَح حول النظام العالمي الجديد وطريقة وموعد ومكونات تشكيله. لكننا سنبقى مع السؤال الأخير حول تأمين مكان أو مكانة لنا في هذا النظام الجاري تأسيسه. ورغم بقاء التعريف غامضاً، أو بالأحرى رغم بقاء التعريف متغيراً وأحياناً متناقضاً بحسب مستخدمه، إلا أن ما يعنينا هو أن نحرص على التواجد في صفوفه الأمامية.

مجريات التاريخ الحديث، وكذلك القديم، تشير إلى أن أي نظام عالمي، سواء كان جديداً أو قديماً يفرضه الأقوياء، إلا أن مفهوم القوة آخذ في التغير. ولم يعد يعتمد فقط على القوة الحربية أو اتساع المساحة الجغرافية (رغم استمرار أهميتهما)، إلا أن السمة الوحيدة التي تبدو معروفة بشكل ما في النظام الجاري تأسيسه أنه لن يكون ثنائي أو أحادي القطب كما كان في الموجتين السابقتين، بل سيكون متعدد الأقطاب، وهو ما من شأنه أن يدفع الراغبين من العرب للعمل على ضمان المكان والمكانة.

مكانة الراغبين من العرب في هذا النظام لم تتطلب فقط قوة مالية وبأساً عسكرياً. ستحتم قوة فكرية وتقنية وبأساً سياسياً واستراتيجياً. والبأس يختلف كثيراً عن البؤس الذي نحن في غنى عنه تماماً.

حان الوقت لنقل الحديث عن التكتلات والتحالفات والشراكات العربية إلى موضع التنفيذ، وهي خطوات بدأت بالفعل خلال العقد الماضي بين دول عربية عدة جمع بينها التفكير الواقعي بديلاً للخيال مهما كان وردياً، واعتناق نهج الرقمنة واللحاق بالثورة التقنية من جهة أخرى، بالإضافة إلى أرضية ثابتة من الإيمان الكامل بوحدة أو على الأقل تقارب التاريخ والثقافة والجغرافيا والمصلحة العامة المتحققة عبر التقارب والمنافع المتبادلة.

وبين أخوة ضاربة في التاريخ معضدة بتكامل في الموارد البشرية والطبيعية، وتقارب شديد في الرؤى والأولويات الحديثة على صعد السياسة والاقتصاد ومتطلبات العصر الرقمي وغيرها، قطعت دول عربية مثل مصر والإمارات والسعودية والبحرين شوطاً جيداً في مسارها نحو التعاون والتكامل، وننتظر المزيد الذي يؤهلنا للصفوف الأمامية المرتقبة.

 

Email