عادت مفردة «الكتاب» لتعني ما كانت تعنيه فعلاً طوال قرون: «الكتاب الورقي». وهناك الكثير مما يقال حول هذه «الردة» غير المتوقعة، لا سيما من طرف أولئك الذين بشروا بحماس بالغ، منذ عقد أو أكثر، بانتهاء عصر «الكتاب» وأفول صناعة النشر التقليدية.
ابتداءً، لقد انتصر «الكتاب». وفي انتصاره، انتصار للثقافة الحقيقية، والمعرفة الخالصة؛ ذلك لأن كل وعاء معلوماتي أو معرفي يحتضن نوعاً خاصاً به من الثقافة، وتحييد وعاء معلوماتي أو ثقافي معين، هو، بالضرورة، تحييد لنوع محدد من الثقافة والمعرفة.
وهذا أمر في غاية الأهمية، فقد شهدنا على مدار أكثر من عقد، محاولة لإحلال «ثقافة» مواقع التواصل الاجتماعي. وكذلك «ثقافات» صنوف من التقنية، التي غزت العالم، وفتنت العقول، كما تفتن الموضة عقل مراهقة. دون أن ننتبه إلى أننا كنا نتخلى عن مخزون ثقافي إنساني كبير ورصين، أنتجته التجربة الحضارية عبر مصادر (عقول ومواهب) يعتد بها، لصالح ثقافة مبتذلة، تنتجها مصادر عشوائية، تنتسب إلى النوازع الفردية الجاهلة والمشوهة، ولا علاقة لها بالإرث الثقافي الإنساني.
الأمر الآخر، هو أن هذه الهجمة التي واجهها «الكتاب» ليست الأولى في تاريخه؛ ففي عصور ما، تم حرق الكتب في الساحات العامة، وألقيت في الأنهار، ومنعت من النشر والتداول، ولوحق أصحابها.
وفي الواقع، فإن الهجمة الأخيرة المرتبطة بالتقنية الجديدة، تشبه إلى حد كبير في اندفاعها، ومعناها، الهجمات الكبيرة السابقة، المشار إليها آنفاً. وكي لا نخطئ، علينا الإشارة إلى أن ارتباط هذه الهجمة بصنوف التقنية، لا يعني أن هذه الأخيرة مسؤولة عنها فعلاً. بل هو الإنسان، الذي يسيئ لـ«الكتاب» و«التقنية»، معاً.
الأمر الثالث، هو أن «الكتاب»، بوصفه وعاءً معلوماتياً ومعرفياً وثقافياً، أثبت أنه قادر على احتضان الحضارة الإنسانية، بمنجزاتها الثقافية والمعرفية والإبداعية والتقنية، كما لم تفعل أي أوعية أخرى. وأن أي أوعية أخرى لن تستطيع منافسته إلا بالاقتراب من جوهره، والتماهي معه، والاقتداء بطريقة حفظه للتراث الإنساني.
الأمر الرابع، هو أن التقنية لا تزال شابة. لقد قطعت شوطاً طويلاً وغير مسبوق على المستوى التكنولوجي، ولكنها لا تزال تحبو في مجال وعيها ثقافياً، وتوظيفها عملياً في استخدامات تبني على ما أنجزه الكتاب طوال تاريخه. وفي الوقت نفسه، من الحكمة الإقرار بأن لا فرصة أمامها للحلول محله، ولكن من الإنصاف القول إن بوسعها أن تقف إلى جواره، وأن تتكامل مع وجوده.
الأمر الخامس، إن «الكتاب» لا يزال يحتفظ بمكانته أباً روحياً للفنون ولكل الأوعية المعلوماتية والثقافية التي عرفتها البشرية، بدءاً من الصحف والمجلات، والإذاعة والتلفاز والسينما، وكذلك الأوعية الحديثة التي قدمتها صنوف التقنية الجديدة.
لقد خرجت، كلها، من فكرته. وهي، كذلك، جزء من مخزوناته كوعاء لحفظ المعلومات والمعرفة!
الأمر السادس، إن «الكتاب» لم يكن يوماً عدوانياً، يندفع نحو إلغاء ما عداه. وهو بطبيعته منفتح على كل عصر يعيشه، ويبدي مرونة في التكيف مع أحوال وأهوال الحياة البشرية، وقدرة هائلة على مواكبة الفكر والإبداع الإنساني.
الأمر السابع، يكتشف المرء في هذا العصر الذي يتم فيه تداول مختلف أنواع العملات، أن «الكتاب» هو العملة الأهم والأكثر تداولاً وتأثيراً في التاريخ؛ إنه عملة تحصن المجتمعات، وتتيح لها مواجهة الأزمات، ولا يمكن أن تنهار. بل إن ما تحتويه من علوم ومعارف وفكر إنساني، تقدم مداخل ومخارج لمنع انهيار العملات التقليدية، وغير التقليدية، وما شابهها.
ويتوجب هنا، في نقطة ثامنة، الإقرار بأن معارض الكتب لعبت دوراً مهماً في مواجهة الهجمة الهوجاء، التي تعرض لها الكتاب خلال العقدين الماضيين. وساعدت أيما مساعدة في الكشف عن الحقيقة القوية: يمتلك «الكتاب» مكانة خاصة، وإرثاً عريقاً من الإسهام في الحضارة، وتقدم الوعي البشري، وأنه لا يمكن زحزحته عن عرشه بوصفه وعاءً يحتضن المعرفة الإنسانية، ووسيلة لتداولها.
والأهم، إن كل التجارب في هذا المجال، انتهت إلى النتيجة ذاتها: العجز عن مواجهة «الكتاب»!