أدب صغير لا يكبر

ت + ت - الحجم الطبيعي

يكبر الأطفال، ولا يكبر أدبهم معهم، ولكن أدب الأطفال هو في الأصل أدب كبير وناضج، وهو متطلب للغاية من حيث الموهبة والقدرات والأفكار التي يقدمها، وهو في كل الأحوال يبقى عصياً أمام محاولات كثيرة، اعتقدوا أنه سهل، وطيع، وبمتناول اليد لمجرد أنه أدب يخاطب الصغار.

ومن المدهش أن كثيرين لا يجدون صيغة مناسبة، لا إنسانياً ولا تربوياً، للتعامل مع أطفالهم، ينجرون إلى محاولة امتهان كتابة هذا النوع من الأدب، وأن غيرهم، ممن يملكون مفاهيم غير واقعية، ولا علمية، حول الطفولة، ويظنون أنها مجرد مرحلة تتحدد بالعمر الصغير، والإدراك المحدود، ينجرون إلى المحاولة نفسها، معتقدين أن الأمر يتعلق بالكتابة لقراء صغار ساذجين.

في الواقع، يكتشف المرء دوماً أن القارئ الطفل متطلب للغاية، وذائقته متشددة، لم «تشذبها» بعد صنوف المجاملة أو مهادنة الكاتب وسمعته، ولا يتسامح مع نص صغير، غير ناضج.

هل بعد هذا نندهش أن أدب الأطفال يخلد أسماء قليلة معدودة من الكتاب، وأن العالم الذي ينتج يومياً مئات كتاب الرواية والسيناريو الجدد، وغير ذلك من النصوص الموجهة إلى الكبار، بالكاد ينتج بالعام الواحد كاتباً أو اثنين جديدين في مجال أدب الأطفال؟

في عالمنا العربي، تبدو المعضلة أشد فداحة، فعلى الرغم من العرض الوفير في أدب الأطفال، يصعب الوقوع على عمل حقيقي جيد، يمكنه أن يخاطب الطفل. وبقراءة الكثير من هذه النصوص، التي يتم القبول بها تحت تصنيف أدب الأطفال، يكتشف المرء أنه إزاء نصوص لا علاقة لها بالأدب، ينتجها كتاب يتوجب عليهم التعلم (أولاً) من تجربة التعامل مع الأطفال والاحتكاك بهم، والتعلم (ثانياً) من القيم، التي يحشون بها نصوصهم بغية حشوها بعد ذلك في عقول الأطفال، أي أن عليهم ابتداء أن يأخذوا التعليم والقراءة والثقافة على محمل الجد، وأن يتعبوا على أنفسهم في تعلم المهارات اللغوية، وامتلاك ناصية اللغة، والاجتهاد في التدرب على فن الكتابة، والاشتغال على خلق مخزون ثقافي ومعرفي مناسب.

وببساطة، يجب أن يتعلموا الأسس البديهية، ثم الاشتغال على أنفسهم في مجال الكتابة، وغير ذلك، سيبقى ما يقدمونه، أدباً صغيراً لا يكبر، وساذجاً، لا يتصف بالنضج، لا يصلح للأطفال ولا غيرهم.

ومن المفارقة أن كتاباً كباراً مشهود لهم، يتهيبون من الكتابة للأطفال، ويضطربون كلما انتابتهم رغبة في خوض هذا المجال، وفي أغلب الأحيان يتراجعون عن ذلك، أو أنهم يخبئون ما يكتبونه لسنوات، متهيبين، نشره، بينما يستعجل كتاب ناشئون بنشر أول ما يكتبون.

الأمر ينطبق على الأدب الموجه إلى من هم في عمر الفتوة، أو «أدب الفتيان»، وإن كانت هنا بعض الحالات الاستثنائية.

وهو، كذلك، ينطبق على قسم كثير من خيارات الترجمة، التي تقدم للأطفال والفتيان العرب نصوصاً لا تقل هزالة عما ذكرنا آنفاً.

ومع ذلك، يجب القول: إن إنتاجاً معيناً في حقل أدب الأطفال والفتيان ظهر في العالم العربي في عقود سابقة، وتمت مراكمة سلاسل كاملة من النصوص، التي تستجيب للشروط الفنية والموضوعية، وكانت تثري القراء من الأطفال والفتيان على المستوى الروحي والمعرفي، وتسهم في بناء شخصياتهم.

وهذا الإرث القديم من الإنجاز يدفعنا للتساؤل بمرارة: لماذا انحدرنا من تجربة واعدة في مجال أدب الطفل والفتيان، إلى لامبالاة تغرقنا في نصوص تنتسب إلى «أدب صغير»، لا ينضج ولا يكبر.

Email