ومن يجرؤ على تكذيب شدلون؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

سيصادفنا شدلون في كثير من الأماكن والمواقف، فشدلون شخصية يمكن أن نقابلها في كل زمان ومكان. قد نعرفه مقيماً بيننا، وقد نلقاه مصادفة في طريقنا، وقد نسمع عنه دون أن نلقاه أو نراه، فمن هو شدلون هذا؟ شدلون، كما يصفه الأديب التونسي الدكتور شكري المبخوت في رواية «باغندا»، شخص قصير القامة نحيف، في وجهه طول، مفلفل الشعر كأن المشط لم يعرف إليه سبيلاً. وأول ما يلفت انتباهك منه جحوظ لا تخطئه العين، وصوت مبحوح يقرع آذان الجُلاس في المقهى قرعاً.

فشدلون، حسب تشبيه أحد رواد «مقهى الحاج الشمنططّو»، قارورة كوكاكولا يدور كالخذروف ولا يهدأ. لكن رواد المقهى في الحي لا يرضون بغير شدلون يعد لهم النارجيلة، أو يستبدل قطعة الفحم التي كادت تصبح رماداً.

والغريب أنه لا يتفرد بشيء في إعداد الشيشات، غير أن المغرمين بالشيشة كانوا يرغبون من الشاذلي خدّوج في نكتة خضراء طرية، أو حكاية غريبة شاذة، أو كذبة من أكاذيبه اللذيذة التي يخرجها لغير العارف ببراعته في تأليف القصص واختلاقها مخرجاً لا يمكنك معه إلا أن تصدقها، أو توهمه بأنك مصدقها ليستمر في تمثيلها. إنه وكالة أنباء الحي والمقهى كما يحلو لصديق صحافي من جريدة «الصباح» أن يسميه.

كان بطل الرواية عبد الناصر، الذي تعرفنا عليه قبل ذلك في رواية «الطلياني» الحائزة الجائزة العالمية للرواية العربية عام 2015م، والتي أكملها برواية «مرآة الخاسر» عام 2019م، كان يجري تحقيقاً حول اختفاء الجوهرة السوداء في تاج كرة القدم التونسية، كما أطلق عليه كاتب الرواية، لاعب «نادي الاتحاد التونسي» في منتصف ثمانينيات القرن الماضي «باغندا».

كان عبد الناصر قد تربى هو وباغندا في حيين متجاورين، ولعبا ضد بعضهما في البطاح، وكانت له معه حادثة رواها في مكان آخر من الرواية. لهذا لم تكن القضية بالنسبة إليه أمراً صحفياً ومهنياً بحسب، فقد كان للدافع الذاتي دور في استقصاء ما حدث، رغم قناعته بأن النتائج التي قد يتوصل إليها لن تنشر في الصحيفة التي يشتغل فيها، ولا في غيرها (وهو ما وقع بالفعل).

أهو جهد ضائع؟ يتساءل عبد الناصر، ثم يجيب: «قد يكون، ولكنني لم أكن وقتها أفكر بمنطق الربح والخسارة، ولا بحساب الجهد والمردود». لهذا مضى يستقصي عن الحادثة كي يصل إلى الحقيقة، في أجواء تكشف الفساد الذي كان يغرق فيه المجتمع التونسي في زمن كانت فيه سلطة الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة تحتضر، بينما هي تخوض حرباً مع «الإخوان» الطامعين في الحكم، حيث تحالف المال مع السياسة والإعلام، وغيرهما من مراكز النفوذ في الدولة، مستفيداً من الرياضة، وعلى وجه الخصوص لعبة كرة القدم، معبودة الجماهير الأولى، مستغلاً حب هذه الجماهير للعبة، وضعف اللاعبين وقتها أمام نفوذ رؤساء الأندية وسلطتهم وسيطرتهم على مفاصل الاقتصاد ومجالس إدارات الأندية.

ولكن ما شأننا الآن بهذا؟ فلنعد إلى شدلون، لأن حديثه أكثر متعة وأخفّ وطأة.

كان عبد الناصر يعرف بالحدس أن نقطة ضعف شدلون هي حرصه على أن يبرز في جُبّة العارف الملم بكل شيء. والتشكيك في هذا إنما هو عنده بمثابة التشكيك في رجولته وكينونته أصلاً. فكم مرة سمعه يردّ على من يكذبه بما معناه «إذا كان الخبر مخالفاً لما رويته فإنني سأقص شاربي». وهذا هو ألطف رد من ردوده التي قد تخرج عن حدود الأدب.

لذلك تعمّد السخرية من جهل شدلون بما وقع لباغندا، وطفق يحدث صديقه بصوت مسموع عن ادعائه معرفة كل شيء، ولكنه في المسائل الحقيقية والمهمة يكون عاجزاً عن معرفة الحقيقة. أسرّ إلى شدلون أنه إذا أراد أن يعرف ما حدث لباغندا فإنه على استعداد لأن يمده بالتفاصيل جميعاً. هكذا ابتلع شدلون الطعم وباح لعبد الناصر بما عنده من أخبار ومعلومات عن سر اختفاء باغندا.

قد يكون شدلون شخصية حقيقية أو هو شخصية وهمية، لكنه بالتأكيد نموذج لشخصيات نقابلها كثيراً في الحياة، تدعي أنها تعرف كل شيء، وأن هذه المعرفة تمنحها الحق في امتلاك الحقيقة وحدها. يخرجون علينا بين حين وحين بأخبار، بعضها من نوع البشارات، وبعضها الآخر من نوع التحذيرات، فإن تحققت بشاراتهم أو تحذيراتهم قالوا إنهم أصابوا، وإن لم تتحقق لم يقولوا إنهم أخطأوا، ولا ندري إن كانت هذه ملهاة أم مأساة، لكنها على أي حال معاناة.

 

Email