أبرز الإعاقات لحلم «عالم أفضل»

ت + ت - الحجم الطبيعي

استعراض سريع للدراسات التي تصدر كل عام عن منظمات دولية على درجة عالية من الرصانة حول الواقع الذي يعيشه الإنسان في القرن الحادي والعشرين: اقتصادياً وأمنياً وصحياً وتراثياً وثقافياً ونفسياً وتعليمياً وحقوقياً في شتى بقاع العالم.

استعراض يرسم بمجمله صوراً مقلقة جداً لمعالم المستقبل وآفاقه. هذه المنظمات تحمل بأمانة وحرفية سماعة الطبيب أو مبضع الجراح أو مجهر التحليل المرضي أو قلم الناقد الأكاديمي أو أطروحات الباحث المجتمعي، إلا أنها تحمل قبل هذا أو ذاك حلم الإنسان في كل مكان بغد أفضل بعيداً عما يعتري العالم الذي نعيشه من مساوئ على المستويات المختلفة: الفقر والجهل والمرض والفساد واللا شفافية والقلق وتراجع الشعور بالأمان في ظلال المخاطر التي تهدد البيئة وتزايد التشنجات في العلاقات الدولية وتعاظم ميزانيات تسلح الدول والتجاوزات على حقوق الإنسان... و.. و.. والكثير الكثير مما يرهقني جداً تعداده. أمام كل ذلك أجدني مع آخرين كُثُر في مواجهة السؤال المهم الذي يتعلق بكيفية تجاوز كل هذه الأوضار للعبور نحو «عالم أفضل»، فالنظام العالمي الذي أفرزته الحرب العالمية الثانية قد استنفد قدراته منذ سنوات ولم يعد قادراً على مواجهة متطلبات العصر؟

سؤال على قدر كبير من الأهمية، الإجابة عنه صعبة جداً لعدم وجود إجماع في «الرؤى» حول مفهوم «العالم الأفضل» عند السياسي أو عند الاقتصادي أو عند الناشط البيئي أو عند دعاة المدارس الأخلاقية أو عند أتباع المناهج الفلسفية المختلفة أو عند المتشبثين بأستار الماضي وتلابيبه والساعين لتعبيد الطرق للعودة إليه.

هناك فارق مهم بين استشراف المستقبل وبين صناعته، فالمراكز البحثية المتخصصة بما يعرف بعلم «المستقبليات» تعير استشرافه الأهمية القصوى لارتباط ذلك برسم الاستراتيجيات السياسية. إلا أن الغرض من هذه المقالة كما يشي عنوانها لا يتفق مع ذلك، فالبحث عن عالم أفضل يتجاوز آفاق استشرافه إلى آفاق صناعته.

كان الحلم بعالم أفضل أبرز الهموم التي حملها بشجاعة رواد المدارس الفلسفية والأخلاقية وهم كُثر في العالم نكتفي بذكر البعض منهم في الماضي أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو وابن سينا وابن رشد والكندي والفارابي وسبينوزا ولاحقاً كارل ماركس وجان بول سارتر وبرتراند راسل وسيغموند فرويد وكارل بوبر ومارتن لوثر كنغ وإلفين توفلر.

في هذا الصدد، وظفت المدارس الإصلاحية جهودها نحو تحقيق هذا الهدف النبيل برسم الرؤى والاستراتيجيات التي توظف فيها القدرات المتوافرة والعوامل الإيجابية المتاحة وعوامل الإعاقة المتوقعة وحجم كل من هذين العاملين.

المعرفة العلمية هي أفضل ما لدينا من أدوات للتوظيف في بناء عالم المستقبل، وهي في تضاد تام وخصومة شديدة مع الخرافة التي لا تزال تشغل حيزاً ليس بالقليل في عقلية مجتمعاتنا، الشرق أوسطية بشكل خاص، وتعيق إلى حد كبير من تطورها وهو ما يشكل مصدر قلق شديداً في الأوساط الأكاديمية على مستقبل أبنائها. تتضمن المعرفة العلمية البحث عن الحقيقة في إطار واقعها الزمني والمكاني وليس بالضرورة السعي الفلسفي للبحث عن اليقين. فكيف نوظف أفضل ما لدينا من معارف ومناهج عمل وأساليب تفكير لصناعة عالم أفضل؟

على المستوى التنفيذي ليس هناك بديل عن منظمة دولية كالأمم المتحدة يتفرع منها عدد كبير من المنصات على هيئة أجهزة ومنظمات وبرامج وصناديق تتعامل بمختلف ما يختص بتحقيق ما هو أفضل على مستوى برامج الدول أوالعلاقات الدولية، منصات تدار بوساطة خبراء مختصين من جميع دول العالم.

الأمم المتحدة منظمة دولية للتشريع والتنفيذ والقضاء، ميثاقها دستور دولي يعبر عن مبادئ حضارية على أرفع المستويات، فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدر عنها عام 1949 هو بحق أفضل ما وضع تعبيراً عن أحلام وطموحات الإنسان تجاوزاً لجميع ما يجزئ الانتماء للإنسانية على أسس عرقية أو دينية أو مذهبية أو ثقافية أو مناطقية.

إلا أن جميع منصات هذه المنظمة تخضع بهذا الشكل أو ذاك لإرادات الدول الكبرى التي احتكرت صياغة قراراتها في مجلس الأمن الدولي وهي قرارات لا تتأتى بفعل حسن النوايا قدر ما تأتي تلبية لمصالح هذه الدول، وهو ما يمثل أكبر الإعاقات نحو تحقيق الحلم بعالم أفضل.

 

 

Email