العقل الغربي والتجربة الأوكرانية.. خواطر وتأملات

ت + ت - الحجم الطبيعي

وضعت الحرب الأوكرانية عموم الأوروبيين، دولاً قومية وأطراً اتحادية وجماعية وتعاونية متعددة العناوين والوظائف، أمام أسئلة صعبة وخيارات معقدة..

كل خبراتهم المتراكمة حول سنن الحرب والسلام داخل قارتهم وخارجها، وكل مرجعياتهم الفقهية والمعرفية الحقوقية القانونية النظرية والتطبيقية، وكذا سوابق تغلغلهم التاريخي في كل صغيرة وكبيرة من شؤون الكوكب وشجونه، أخفقت حتى الساعة في إرشادهم إلى كيفية إطفاء حريق هذه الحرب. وهذا ما يفسر فشلهم الملحوظ في بناء سيناريو متماسك، بشأن كثير من تفاصيل علائق وخرائط ما بعد الحرب..

فهذه التفاصيل الموصولة بمستقبل أحوال الداخل الأوكراني، أو علاقة هذه الأحوال بالمشهد الإقليمي الأوروبي أو بشبكة العلاقات الدولية الأكثر اتساعاً، ستكون على الأرجح نتاجاً أو إفرازاً عضوياً لبنود تسوية الحرب قبل أي محدد أو مؤثر آخر.

إلى ذلك، فإن ظاهر متابعة الأخبار التي يبثها الإعلام الأوروبي، أو لنقل الغربي بعامة،وخصيمه الروسي، حول ما يجري في ميدان الحرب، يوحي بوجود مبالغات هي أميل للأعمال الدعائية بأكثر من التعبير عن الوقائع الحقيقية.

حالة ضبابية من هذا القبيل، تؤكد صعوبة رؤية الحاضر بقدر كاف من الموضوعية والصفاء والشفافية..

وهذا يعني أننا أيضاً بحاجة لمرور بعض الوقت، قبل أن نتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود بخصوص المستقبل. بعض معالم ما يجوز وصفه بالعجز عن التأثير الناجز المباشر في مساري الحرب والتسوية، تجلت في ردود أفعال المنظومات الغربية، بما فيها قمم الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، التي انبرت جميعها لمواجهة المبادرة العسكرية الروسية بمنطق لا يتعدى العقوبات الثقيلة، الخالية من دسم أو شبهة الانخراط في ميادين القتال المسلح..

وهذه مقاربة مهمة وقادرة على الردع في كثير من الحالات، لكن نتائجها تبقى ذات جدوى نسبية محدودة في لجم آلة عسكرية، أو في إحداث تغييرات سياسية فارقة، بين يدي قوة بحجم القطب الروسي.

علاوة على ذلك، ثمة معلم بارز آخر للإحباط، قوامه وقوف عالم الغرب يائساً في توظيف أهم الأطر المعنية بإقرار السلم والأمن الدوليين، وفي طليعتها مجلس الأمن، بحكم استحالة تفعيل آلية اتخاذ القرار تحت سطوة الفيتو، الروسي بالطبع، في مثل هذه الحالة.

الرأي في كل حال، أن التجربة الأوكرانية الدامية ربما أطاحت، أو هي في طريقها للإطاحة، بحقائق وافتراضات أخرى طال الظن باستقرارها وثباتها والاعتياد عليها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.. كالاعتقاد في ديمومة وشمول مناخ السلام، والتخلي جذرياً عن التعامل بلغة الحرب والدمار، في الرحاب الأوروبية.

والاكتفاء بسقوف معاملات الحرب الباردة ودواليبها، حيث المنافسات والخصومات تدور جميعها في أفلاك الحراكات والتدافعات السلمية، ولا يتجاوز أي طرف أو معسكر منغمس فيها إلى سياقات قعقعة السلاح والحرب الساخنة أومجرد التهديد بها. وإن كان لابد من التوسل بسياقات كهذه، ففي عوالم الجنوب متسع للعاملين عليها بالوكالة.

على وقع الحدث الأوكراني، وتوابعه وما تأتى عنه من ويلات خضوع ملايين «الأوروبيين الأقحاح ذوي العيون الزرقاء» لمحاذير الخوف والإصابة والموت واستصراخ الدنيا للعون والإغاثة وتذوق طعم حياة النزوح واللجوء البائسة..، ربما تفكر الأطر الغربية كثيراً قبل إعادة تصدير خطاب يزهو بالمعالجات العقلانية الرشيدة للقضايا البينية الخلافية.

وذلك قياساً بما جرى ويجري من عنف وتعصب وتقاتل سريع الاشتعال في بقية العوالم، لاسيما الموصوفة بالتخلف. وفي أقل الفروض، قد يتعين على هذه الأطر، وبخاصة المعنية منها بمدارسة النماذج الحضارية، بذل جهود مضنية للدفاع عن بعض معزوفاتها القديمة، حول حصانة مجتمعات الشمال المتقدم ضد الأعطاب الأخلاقية التي تحط من شأن الإنسان والإنسانية.

ستكون هذه الحرب مثلاً يشحذ لدى شعوب الشمال، بشقيها الشرقي والغربي، الأوروبي والأطلسي، جانباً مظلماً من تاريخهم لطالما حرصوا على محوه من ذاكرتهم الحضارية الجمعية، موجزه عدم استبعاد الكراهية والتربص وأطماع السيطرة بين البعض منهم، إلى حد التراشق والقصف المتبادل بأدوات القتل.

ونحسب أنه ليس في هذه الانتكاسة ما يدعو للسرور أو الاستبشار،لا بالنسبة لأبناء هذه الحضارة الرائدة، ولا للخلق أجمعين. فالخبرات تقول بأن حروب القوى الأوروبية، أو الغربية، قابلة للتوسع إلى مختلف الجهات واتخاذ الصبغة العالمية.

مجرد استحضار هذه الخبرات، ولاسيما الأضرار التي طالت معظم أرجاء المعمورة جراء الحربين العالميتين في القرن الماضي، وهما حربان أوروبيتان في الأصل والفصل، تكفي وزيادة لهرولة العالم برمته، عاجلاً غير آجل، نحو إسكات المدافع وإقرار السلم والأمن في أوكرانيا وسائر محيطها القاري.

* كاتب وأكاديمي فلسطيني

Email