أرسى النبي محمد صلى الله عليه وسلم دعائم الأمن والاستقرار في شبه الجزيرة العربية، وجمع العرب بعد فرقة، ووحد كلمتهم بعد صراعات ونزاعات، ونشر بينهم قيم التلاحم والتراحم والعدل والوئام، وفتح أياديه للعالم أجمع، يدعوهم إلى إفراد الله بالعبادة، بالحكمة والرحمة والموعظة الحسنة، ويحثهم على الصدق والعفاف وصلة الأرحام والوفاء بالعهد وأداء الأمانة، ويا لها من قيم عظيمة، وفي غضون سنوات قليلة تأسس مجتمع المدينة، الذي أشرقت فيه شموس الاستقرار، وساد فيه أرفع القيم، حتى مدح الله أهله بقوله: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}، فانقلبت العداوات ليس إلى محبة وإخاء فقط، بل إلى إيثار على النفس ونكران للذات في سبيل إسعاد الآخرين، فكانت المدينة المنورة منارة تشرق فيها أنوار الأمن والاستقرار والطمأنينة والتلاحم.

وحث النبي صلى الله عليه وسلم المجتمع على القيم والمبادرات التي ترسخ السلام والاستقرار فيما بينهم، وتزيدهم محبةً وتآلفاً وتلاحماً، فعندما سأله رجل: أيُّ الإسلام خير؟ قال: «تُطعم الطعام، وتَقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف»، قال أبو الزناد القرطبي أحد شراح البخاري: في هذا الحديث الحضُّ على استجلاب قلوب الناس بإطعام الطعام وبذل السلام، لأنه ليس شيء أجلب للمحبة وأثبت للمودة منهما، وقد مدح الله المطعم للطعام فقال: {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً}، ثم ذكر الله جزيل ثوابهم فقال: {فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسروراً}، وفي قوله عليه السلام: «وتَقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» حثٌّ على التواضع وترك الكبر، ليكون المجتمع يداً واحدةً غنيهم وفقيرهم صغيرهم وكبيرهم.

كما سعى النبي صلى الله عليه وسلم لتوطيد دعائم الاستقرار بين أطياف المجتمع على اختلاف أديانهم، بتعزيز التعايش المشترك بينهم، القائم على حقن الدماء، وحفظ الأعراض، وصيانة الأموال، ومراعاة حقوق بعضهم البعض، وصيانة أمن المجتمع واستقراره، وأبرم النبي صلى الله عليه وسلم معاهدات سلام تجمع الجميع تحت إطار الأمة الواحدة، قال ابن إسحاق: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم، ومما جاء فيه: «وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف» إلخ.

وأما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية فقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم كذلك على ترسيخ السلام والاستقرار، وإبرام المعاهدات التي تصب في مصلحة الدولة وتحقيق المصالح العليا للمسلمين، فأبرم صلح الحديبية مع كفار قريش الوثنيين الذين كانوا من أشد الناس حرباً وتآمراً على المسلمين في ذلك الزمان، والذين ناصبوه العداء منذ انبثاق فجر دعوته، وأخرجوه من دياره، وخاضوا معه حروباً ضارية، وصولاً إلى تأليبهم الأحزاب عليه يوم الخندق في العام الخامس للهجرة، وما لقيه المسلمون جراء ذلك من شدة الحصار والحشود المتكالبة عليهم من كل حدب وصوب، وقد وصف الله تعالى ذلك بقوله: {هنالك ابتُلي المؤمنون وزُلزلوا زلزالاً شديدًا}، ومع كل ذلك أبرم معهم النبي صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة، والتي تقضي بعقد هدنة بين الطرفين لمدة عشر سنوات، لما في ذلك من تحقيق المصالح الكبرى.

وقد نتج عن هذا الصلح خير عظيم للإسلام والمسلمين، ففي أجواء السلام هذه أمن الناس بعضهم على بعض، وحصل التواصل بينهم، فكلم بعضهم بعضاً، وتحاوروا وتناقشوا، وأتيح للمسلمين الفرص المثلى لبيان ما عندهم من الحق، وإزالة الدعايات المغلوطة تجاه دينهم، وإيصال صوتهم للجميع، فكان هذا السلام والتواصل سبباً في انتشار الإسلام وقوة المسلمين، قال ابن القيم: «ودخل بسببه بشر كثير في الإسلام، ولهذا سماه الله فتحاً في قوله: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً}، نزلت في شأن الحديبية».

إن صور تعزيز الاستقرار في العهد النبوي كثيرة، لا يتسع المقال لتفصيلها، وهي تؤكد أن مد جسور السلام وتوطيد دعائم الاستقرار تحقيقاً للمصالح العليا مبدأ أصيل وسياسة حكيمة.

 

* كاتب إماراتي