شيخة دبي.. ذكرى طيبة لا تموت

ت + ت - الحجم الطبيعي

استذكر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، قبل أيام والدته الشيخة لطيفة بنت حمدان بن زايد آل نهيان، رفيقة درب طيب الذكرى المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم بتدوينة حوت مقطعاً من كلامه الثمين الذي يقطر رقة وعذوبة وتأثراً بذكرى هذه الوالدة العظيمة، التي احتلت وجدان هذا الفارس المهيوب، منذ طفولته الأولى، وخصها بأروع الصفحات في سيرته الذاتية المبدعة (قصتي: 50 قصة في خمسين عاماً)، حيث خصها بثلاث مقالات متتاليات، فضلاً عن حضورها العميق في كثير من المقالات المتعلقة بنشأة صاحب السمو، وعلاقتها الفريدة بزوجها، الذي أحبها من قلب صادق ظل عميق الوفاء لها، بعد مغادرتها لهذه الدار الفانية، وذلك لِما جُبلت عليه هذه السيدة الشريفة من الشمائل والأخلاق النادرة، التي ذكر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد الكثير منها بإحساس يجمع بين الفخر والحزن، الفخر بهذه الشيخة العظيمة الأخلاق، والحزن على فراقها، الذي لم يغادر قلبه منذ أربعين عاماً كانت فيها عميقة الحضور في وجدان هذا الابن البار، الذي خلد سيرتها العاطرة في كتابه، الذي أودعه خلاصة عمره وثمين تجاربه.

على حسابه في إنستغرام كتب صاحب السمو قائلاً: «لطيفة في اللغة: المرأة الناعمة، الرقيقة، الرفيقة، النادرة... لطيفة في الحياة هي أمي: اسمها لطيفة بنت حمدان بن زايد آل نهيان، أجمل وأنعم وأرقّ وأرفق إنسانة في حياتي» بهذه الكلمات النادرة المفعمة بالحب والحنين إلى وجه الأم يفتتح صاحب السمو هذه التدوينة العابقة بالمحبة في واحدة من أعمق الذكريات رسوخاً في قلبه الطيب النبيل، وهو حين يجمع كل هذه المعاني اللغوية لمعنى اللطف يريد أن يقول: إنّ أمي قد جمعت ذلك كله ونافت عليه، فيفرق بذكائه الأدبي بين اللغة والحياة، ليقرر تفوق الحياة على اللغة، فلطيفة التي يعرفها في الحياة هي أمّه، التي تحمل من صفات اللطف والرقة والرفق وبهاء الأخلاق، ما يجعلها في عينه النموذج الأعلى للكمال الإنساني، فقد كانت شخصيتها بحسب عبارة صاحب السمو «قوية ومحبوبة في الوقت نفسه، وأن كل من عرفها أحبها»، ويبدو أن هذا هو السر العميق في شخصيتها التي ظلت عميقة الحضور في وجدان جميع ساكني دبي، الذين كانوا يهرعون إليها في الدقيق والجليل من الأمور، فيجدون عندها الظل الظليل، والعون والمساعدة، تبذل ذلك بأخلاق الكرام التي ورثتها عن آبائها الأسياد الكرام، وعاشت بها مع زوجها فارس الديار وصقر البلاد.

ولا يكتفي صاحب السمو بهذه اللمعة البديعة من إعجابه بوالدته الكريمة، بل يقص علينا طرفاً رائعاً من أخلاقها وأمومتها، التي كانت ترعى بها أطفالها، ومباشرتها لذلك بنفسها، رغم وجود الخدم والحشم في بيتها، وهي سليلة السادة الأشراف، لكنها كانت تحب أن تعيش طبيعة الأم المعطاءة، وهو ما عبر عنه صاحب السمو بأسلوبه الأدبي الأخّاذ حين قال مواصلاً الحديث عن الملامح الأخلاقية لوالدته: «كانت تُعدّ فطوري كل يوم قبل ذهابي إلى المدرسة، وفي الطريق كنت أقسمه نصفين: لي النصف، ولمهرة كنت أحبها النصف الآخر»، ليكشف لنا هذا المقطع عن مبلغ الاهتمام الذي كانت تُوليه الشيخة لطيفة، رحمها الله، لأبنائها الذين كانت تحبهم جميعاً وتمنحهم المحبة اللازمة شرعاً من حيث العدالة، لكنها كانت تخص صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد بعاطفة إضافية، عبر عنها هو في موطن آخر، ولذلك نشأ هذا الرباط السري بين هاتين الروحين اللتين ستظلان متعلقتين ببعضهما حتى الرمق الأخير من حياة الشيخة لطيفة، رحمها الله، فكان إعداد فطوره مظهراً من مظاهر الرحمة والمحبة للأطفال في هذه السن المبكرة، لكن هذا الطفل كان له شأن آخر تجلى في تعلقه المبكر بالخيل، الخيل التي سيكون لها معه أعظم قصة في العصر الحديث، فكان يقسم الفطور نصفين بينه وبين مهرة، أحبها وآثرها على نفسه في تلك المرحلة المبكرة الغضة من عمره الميمون.

«كنت صغيراً، علمتْ أمي أن فطوري كان يُقسم على اثنين، فزادته إلى ضعفين، اعتقدتُ أن هذا الأمر صدفة سائدة حتى أدركت بعد أن كبرت أنها كانت تراقبني، وتعرف أن الفطور لا يكفيني» وبقلب الأم الفريد كانت الشيخة لطيفة، رحمها الله، تراقب وليدها الصغير حين يغادر البيت، فعلمت أن هذا الفتى الذكي قد أصبح له شريك في فطوره هو هذه المهرة الرفيقة، فمن دون أن يشعر ضاعفت له حصة الفطور لكي تضمن سلامة تغذيته، وتغذي فيه روح النبل والإيثار حين اختار من بواكير حياته صداقة الخيل، التي ستكون واحدة من أعظم ملامح حياته المقبلة.

«هكذا هي الأم: لا تشبع حتى ترانا نأكل، ولا ترتاح إلا بعد أن ننام، ولا تفرح إلا إذا زالت عنا الأحزان» وبهذه الخاتمة الشجية يلخص صاحب السمو جوهر الأمومة الصحيحة، التي يتجلى فيها الإيثار في كل شيء، فالأم الصالحة لا تأكل حتى ترى أبناءها قد شبعوا، ولا ترتاح حتى تراهم قد أخلدوا إلى النوم، ولا تشعر بالفرح إلا إذا تأكدت من فرح قلوبهم وخلوها من الهموم والأحزان، وهكذا كانت الشيخة لطيفة، رحمها الله، وحين وصل صاحب السمو إلى هذا المقطع الشجي من سيرة والدته العاطرة في كتابه المشار إليه ختم هذه القصة بقوله:

مهما الليالي تدور

حبك ترى في الصدور

إنتِ يا بدر البدور

لك كل حب وشعور

وعلى كثرة ما كتب صاحب السمو من الشعر والنثر، إلا أن ما كتبه في ذكرى والدته في سيرته الذاتية سيظل من وجهة نظري المتواضعة هو أروع ما خطه قلمه البليغ، كان يكتب من ذَوْبِ قلبه، وتكاد الحروف تسيل بالدمع ولا سيما حين وصل إلى الرحلة الأخيرة في حياة الشيخة لطيفة، حيث كان يردد بين كل فقرة وأخرى: «من مثل أمي، من مثل لطيفة ؟» ليصل الحديث المؤثر إلى ذروته حين تحدث عن وحشة البيت بغياب هذه السيدة الجليلة، لتكون الخاتمة العميقة التأثير في تلك الدموع الغزيرة، التي انهمرت من عيون الفارس الشجاع الشيخ راشد بن سعيد، رحمه الله، حين أراد إملاء وصية المرحومة الشيخة لطيفة، فانفجر بالبكاء وهو الصقر الشجاع، لكنها رقّة الفرسان وأخلاق الرجال الكرام، الذين يحفظون العهد ويصونون الملح والودّ، وهو ما عبّر عنه صاحب السمو حين ختم تدوينته الجليلة بقوله: «ما زلتُ أشعر بفقدها حتى بعد 40 عاماً» ليظل رنين الذكرى عميق الحضور في وجدان هذا الفارس، الذي ما تنكّر لحبيب في يوم من الأيام.

 

Email