في انتظار شيء ما

ت + ت - الحجم الطبيعي

قال دروغو:

-لقد شاهدته البارحة عن بعد.

-ماذا؟ الحصن؟

-أجل الحصن.

صمت برهة، ثم حاول أن يبدو لطيفاً ومهذباً. تابع يقول:

-لا بد أن يكون ضخماً للغاية، أليس كذلك؟ لقد بدا لي هائل الحجم، هائل الحجم؟

-الحصن؟ لا، لا، إنه صغير جداً، وهو عبارة عن مبنى قديم، إنه يعطي هذا الانطباع عن بعد وحسب.

صمت برهة ثم أضاف:

-قديم جداً، وقد تم تجاوزه الآن تماماً.

-ولكنه واحد من الحصون الرئيسة، أليس كذلك؟

أجاب أورتيز:

-لا، لا، إنه حصن من الدرجة الثانية.. إنه جزء من منطقة حدودية ميتة، إنهم لم يجروا أي تعديل عليه، لقد ظل هكذا منذ قرن مضى.

-كيف، حدود ميتة؟

-إنه حصن حدودي، وهو لا يوحي بأي فكرة، وأمامه هناك صحراء شاسعة.

-صحراء؟

-بالطبع صحراء، أحجار، أرض يابسة، إنهم يسمونها صحراء التتار.

كان هذا الحوار يدور بين الكابتن أورتيز والضابط جوفاني دروغو، وهو في الطريق من المدينة للالتحاق بحصن باستياني، الذي جاء تعيينه الأول فيه.

هكذا بدأت رحلة جوفاني دروغو، بطل رواية «صحراء التتار» للكاتب الإيطالي دينو بوزاتي، الصادرة عام 1940، والتي تحولت عام 1976 إلى فيلم سينمائي، وروجت لمذهب الواقعية السحرية في الأدب.

كانت صدمة دروغو عندما وصل إلى الحصن كبيرة. وعندما قابل الميجور «ماتي» أبدى له رغبته في مغادرة الحصن قائلاً إن لديه في المدينة عائلة، وعنده هناك أشياؤه المفضلة.

قال له الميجور إنه يفهم ذلك. لقد كان يتخيل حصن باستياني في شكل مختلف، والآن يثير دهشته. سأله كيف أمكن له أن يصدر حكماً ولمّا يمضِ على وصوله للحصن بضع دقائق؟

في النهاية خيّره إن كان يرغب في العودة في الحال، أم أنه يفضل أن ينتظر بضعة شهور. شرح له الأمر قائلاً إنه إذا كان يفضل العودة مباشرة فعليه أن يقوم بدور المريض، حيث يأتي الطبيب ويقوم بإعداد وثيقة عن وضعه. وأضاف أنه لو كان في محله، فإنه يفضل تجنب ذلك، لأنه يثير انزعاج الكولونيل ويؤلمه، وكأنه ينوي اقتلاعه من حصنه.

كان الخيار الآخر هو أن يمضي في المعسكر أربعة أشهر، يتم بعدها إعداد تقرير طبي سوف يهتم ماتي شخصياً بأن يكون سلبياً. عندها سيكون الأمر قانونياً جداً. قال له الميجور إنها مجرد نصيحة، وهو حر في نهاية المطاف.

انصاع دروغو لنصيحة ماتي، وبعد أربعة أشهر، وبعدما أعد الطبيب روفينا له التقرير المزيف الذي يقول إنه يعاني من اضطراب في الجهاز القلبي، وحرر له تصريحاً بنقاهة، واستعد للذهاب إلى القائد كي يوقعها، قال دروغو وهو يكاد يتلعثم:

-أيها الطبيب، أيها الطبيب، إني بخير.

رد الطبيب:

-أعرف ذلك، ما الذي كنت تعتقده؟

رد دروغو، وهو يكاد ينكر صوته:

-أنا بخير وأريد أن أبقى هنا.

-أن تبقى هنا! في الحصن! لا تريد مغادرته أبداً؟ ما الذي حدث لك؟

قال جوفاني:

-لست أدري، ولكني لا أستطيع السفر.

بعد أربع سنوات من إقامته في الحصن ذهب دروغو في زيارة إلى المدينة. قالت أمه عندما رأته: «آه، شكراً لله، لم تتغير بعد». جلس في الصالون، وبينما كان يحاول الإجابة عن الأسئلة المتعددة، شعر بأن السعادة بدأت تتحول إلى حزن فاتر، وبدا له أن المنزل خاوٍ قياساً إلى زمن ما. كان أحد إخوته قد سافر إلى الخارج، وآخر كان في رحلة، من يدري إلى أين؟

الثالث في الريف، لم يبقَ في البيت سوى الأم. حتى هي كان يتوجب عليها الخروج بعد برهة لقضاء حاجة في الكنيسة، حيث كانت إحدى صديقاتها في انتظارها.. كان وحيداً في غرفته، الأم تصلي في الكنيسة.. الإخوة بعيدون، إذاً العالم كله يعيش دون الحاجة إلى جوفاني دروغو.

قضى دروغو 30 سنة مع نظرائه في حصن باستياني ينتظرون هجوم الأعداء المفترضين. وعندما حدث الهجوم كان دروغو قد أصبح مسناً ومريضاً، الأمر الذي اضطر قائد الحصن لإرساله إلى المدينة. وفي الطريق قرر دروغو أن يمضي ليلة في نزل صغير مروا به. في هذا النزل الصغير أسلم جوفاني الروح وحيداً بعد كل هذه السنوات من انتظار ما لم يأتِ إلا بعد فوات الأوان.

إنها ليست حكاية جوفاني دروغو وحده، لكنها حكاية أغلب البشر، يمضون حياتهم كلها في انتظار شيء ما، وعندما يجيء هذا الشيء تكون نهايتهم هم قد أزفت. كلنا جوفاني دروغو بشكل من الأشكال.

* كاتب وإعلامي إماراتي

 

Email