قول في الكره

ت + ت - الحجم الطبيعي

يُعرف الكره بمقت الآخر، فالعداوة والبغضاء متعددة الأسباب ومختلفة في التعبير. إنه نقيض الحب. لا شك بأن الكره، بوصفه نقيض الحب، ليس سوى ثمرة الحب نفسه. فحين أعلن بأني أكره فإني أعلن في الوقت نفسه بأني أحب نقيض ما أكره. فالذي يكره ماهية الدكتاتورية والدكتاتور وطغام الدكتاتور فإنه يحب الحرية واحترام الإنسان، إذاً: للحب أولوية على الكره. والطغام الذين يكرهون المتمرد الحر فهم ينطلقون من حبهم لذواتهم التي لا معنى لها من دون الدكتاتورية. فالإنسان لا يكره إلا ما لا يحب، فكرهه صادر عن حب نقيض ما يكره.

وهذا يعني ليس كل حب أمراً محموداً، فالتمييز بين حب وحب تمييز قيمي وأخلاقي، فارتباط الحب بمفهوم الفضيلة يحدد ماهية الحب. وإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك، فإن الحب كينونة عاطفية وعقلية وجمالية وأخلاقية.

لكن الثقافة العربية تنطوي على مثلب خطير جداً ألا وهو العداء للأنا وكرهها، ولهذا يعوذ العرب من الضمير المنفصل أنا وتقول العامة: «أعوذ بالله من كلمة أنا» ويتعوذون من الأنا كما يتعوذون من الشيطان.

ودعوني أقول لمن يرى الأنا شراً مستطيراً إن الشر في بلادنا كامن في غياب الأنا واستبداد النحن والهم. في غياب الأنا التي تفكر والتي تختار والتي تتحرر والتي تحلم والتي تتمرد. بل إن ألد أعداء الأنا هو الطاغية المستبد الذي يسعى دائماً لجعل الناس قطيعاً خوفاً من الأنا الحر. والقطيعية هي صورة موت الأنا.

ولولا هذه القطيعية لما كان هناك حركات أصولية إرهابية، لما كان هناك وعي طائفي متعصب. لولا الأنا لما احتفل الوجود بالثائر الذي أعلن أنه يريد. لو كان هناك انتصار للأنا لكان هناك انتصار للحرية والأحرار. لو كان هناك انتصار للأنا لما كان هناك قطيع يمشي وراء المستبد. لما كان هناك تحطيم لقيمة الإنسان. وإذا كان بعض الناس يكرهون الأنا لاعتقادهم أنها والأنانية شيء واحد فهم مخطئون. لأن حضور الأنا هو بالضرورة حضور الآخر بوصفه أنا. واعلموا أن انتصار الحرية مستحيل دون انتصار الأنا. لأنك حين تعلن «أنا» تعلن في الوقت نفسه حضور الذات الممتلئة بالوجود.

لكن كره الآخر هو عدوان، كره الآخر والتعبير عن هذا الكره بوصفه وعياً زائفاً بالذات وبالإنتماء، صار وسيلة وضيعة لتحقيق شهوة الحضور الزائف هو الآخر. وهو تعبير عن القصور العقلي من جهة، وعن الغباء العاطفي من جهة ثانية، وعن الجهل المعرفي من جهة ثالثة.

حب انتمائك القومي لا يتأسس على كرهك لقومية أخرى، واعتدادك الطائفي لا معنى له بكرهك لطائفة أخرى، وسعادتك بدينك لا تعني النيل من أديان الآخرين وكرهها. وبحثك عن الحضور لا يمر بكره من يمتلك الحضور والنيل منه.

حين أبدع اليوناني فن المسرح، رأى بأن الحياة ليست سوى تراجيديا وكوميديا، وفي ضوء هذه الرؤية قسموا المسرح المعبر عن الحياة إلى مسرح كوميدي هدفه الإضحاك، وبعث السرور في النفس، ومسرح تراجيدي حيث تنتهي المأساة بموت البطل. لكنهم لم يلتفتوا إلى مسرح الوقاحة في الواقع، حيث لا يقوم بطل بمهمة الإضحاك، ولا آخر بمهمة الإبكاء، بل ينتج القرف والتقزز من وجود أبطال الوقاحة الذين يكرهون الفضيلة والإنسان.

والحق إن اتحاد الكره بالوقاحة ينجب خطاب العداوة بكل أشكالها، وبخاصة العداوة العنصرية التي هي ذروة الكره الإنساني.

ليس هناك سبب وجيه للكره إلا ذاك المتعلق بالشر، والشر هو كل سلوك مقصوده أذية الآخر وسلبه حقه في الحب والحرية والحياة. ولهذا الدكتاتورية شر، والإحتلال شر، والطائفية شر، والإعتداء على الآخر شر، والحسد شر. والأشرار كل من ينتمون إلى هذه الشرور ويمارسونها.

 

كاتب وأكاديمي فلسطيني*

Email