كاتيوشا

ت + ت - الحجم الطبيعي

كانت أشجار التفاح والخوخ مزهرة

وفوق النهر يهبط ضباب الصباح

صعدت كاتيوشا الصغيرة على حافة الجرف

والنهر يغلفه الضباب

على حافة النهر بدأت كاتيوشا تغني عن النسر الرمادي الشامخ في السهول

وعن الذي تحبه كاتيوشا من كل قلبها وتصون رسائله إليها

أيتها الأغنية عن الصبية العذراء

طيري إلى حدود الشمس

طيري مثل طائر إلى الجندي البعيد عن الحدود

من كاتيوشا أوصلي السلام

لعله يفكر بالعذراء القروية

لعله يسمع أغنية كاتيوشا

وكما يحرس أرض الوطن العزيز

سوف تحرس كاتيوشا حبهما إلى الأبد

كتب كلمات أغنية «كاتيوشا» ذائعة الصيت في روسيا الشاعر ميخائيل إيزاكوفيكسي، ولحنها على مقام النهاوند المؤلف الموسيقي ماتفي بلانتر، وغنتها للمرة الأولى المغنية الشعبية الروسية ليديا روسلانوفا. بعدها أصبحت «كاتيوشا» واحدة من أشهر الأغاني خلال الحرب العالمية الثانية.

تحكي الأغنية حكاية الصبية كاترينا، التي تنتظر حبيبها الجندي الذي ذهب ليخدم بلاده في الحرب. «كاتيوشا» هو تصغير لاسم «كاترينا» بالروسية. تم إطلاق الاسم فيما بعد على واحدة من أشهر قاذفات الصواريخ التي استخدمها الروس وشكلت وقتها خطراً حقيقياً على الألمان أثناء الحرب العالمية الثانية لفعاليتها في ساحات القتال الضيقة والجبلية. أطلق الألمان على صواريخ «كاتيوشا» اسم «سيمفونية ستالين» نظراً لتتابع انطلاقها وصوتها المتناغم، حتى صوت السلاح يمكن أن يكون سيمفونياً!

رغم بشاعة الحرب العالمية الثانية، التي خلّفت ما بين 50 إلى 60 مليون قتيل من البشر، إلا أن كلمات الأغنية الغارقة في الرومانسية والشموخ ألهبت حماس الجماهير التي انطلقت تغنيها في المناسبات الوطنية. كما ألهبت الأغنية حماس شعوب أخرى اندفعت لمحاكاتها.

هذا ما فعله الطبيب الإيطالي فيليس كاسكيوني، عندما كتب كلمات أغنية على لحن أغنية «كاتيوشا» نفسه أثناء مقاومة الإيطاليين للفاشية، خلال الأعوام من 1943 إلى 1945. هكذا أصبحت أغنية «هبت الرياح» واحدة من أشهر أغاني حركة المقاومة الإيطالية.

وعلى المنوال نفسه ألف ولحن اليونانيون أغنيتهم الوطنية أثناء الغزو الألماني لليونان خلال الأعوام من 1941 إلى 1944. وفي الصين احتلت أغنية «كاتيوشا» مكانة رفيعة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. غناها الصينيون، ورددوها مع تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949.

في روايته «فاكهة للغربان» يرصد الكاتب اليمني أحمد زين واحدة من المراحل المهمة التي مر بها اليمن الجنوبي خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. غير بعيد عن أجواء ملبدة برائحة سجائر إمبريالية، وكلمات الأغاني الثورية، التي طبعت تلك المرحلة، جلس صلاح، المناضل اليساري، ليكتب مذكرات زوجة رئيسه السابق في الدائرة الحزبية التي كان يعمل فيها بعد شهور من اختفائه، لتبدأ رحلة متشعبة المسارات في أزمنة أضحت بعيدة، وفي عدن، التي نأت كثيراً عن البحر، وأصبحت تؤثث ذاكرتها بحكايات الهروب واللجوء، وقصص الأرواح التي تترقب حتفها في كل حين...

مع صلاح وسناء وجياب ونضال ونورا وعباس وبقطاش وغيرهم... تتجلى حركة التاريخ بكل تناقضاتها، بالوشاية والمؤامرة والتصفية، بالنضال وأحلام الثورة، بالآلام الفظيعة والخراب الإنساني، حيث ستبدو الغربان في صورة لطخ سوداء تنعق طوال الليل، ليفاجئنا الكاتب بالسؤال الأكثر سوريالية: «كيف سيكون طعم الرفاق في أفواه الغربان وبين مخالبها،... مثل الفاكهة؟» ربما.

في إحدى الحفلات الأممية، التي حضرها صلاح، كانت الرتب العسكرية تلمع، فبدا له حفلاً عسكرياً أكثر منه عيداً أممياً، واستطاع أن يرى أعقاب المسدسات الصغيرة تلمع من أسفل البدل.... في ذلك الحفل راح الجميع يصدحون بأغنية «كاتيوشا»، وضج المكان بتصفيق حار وطويل.

في مكان آخر من الرواية لم يستطع صلاح تجاهل الإنصات لأغنية تبثها إذاعة عدن، أو ربما من مسجل. كانت الأغنية تقول:

عمال من فرحة وفلاحين تبدلت.. قالت عدن

كل الشعوب مدت يديها وسلمت.. قالت عدن

كل الجنوب قال انظري.. قالت عدن.. قالت عدن

المجزرة التي حدثت بين الرفاق يوم 13 يناير 1986 تركت بصماتها على كل ما حدث بعد ذلك، وكانت لها روايات متعددة.

يبدو استدعاء المرجعية التاريخية ضرورة ملحة عندما يلتبس الأمر وتغدو الحقيقة عصية على الإمساك بطرف موثوق منها.

هل يمكن أن يكون للغناء مكان في زمن الحروب؟

هل يمكن لبعض الأغاني أن تحل محل الأناشيد الوطنية، أو تصبح هي الأناشيد الوطنية في الأزمنة الملتبسة؟

ربما هذا ما تحاول أن تقوله «كاتيوشا» التي ظلت ملهمة ومحفزة.

* كاتب وإعلامي إماراتي

 

Email