مستقبلنا في بيئات العمل

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما حدث في الأزمة الأوكرانية كشف مزيداً من ضعفنا، ليس كأمة عربية فحسب، بل كشعوب عالم نامٍ تعتمد اعتماداً كبيراً على غيرها إما في مأكلها، أو مشربها، أو ملبسها، أو مركبها أو غيرها من متطلبات الحياة، ففي الأزمات يظهر الوجه القبيح للأرقام، حيث تبين مجدداً أننا نعتمد اعتماداً كبيراً على غيرنا في استيراد كميات هائلة ابتداءً من الحبوب لإنتاج قوت يومنا كالخبز، مروراً بالأسمدة، وانتهاءً بسائر حاجاتنا. من الطبيعي أن تعتمد الأمم على بعضها، لتفاوت القدرات والأولويات والتحديات الوطنية، لكن عندما نكتشف أننا كشعوب نعتمد على غيرنا في أمور كثيرة، هنا تقع المشكلة، فلم نعد حتى الآن بلداناً متقدمة نصنع ما نستهلك أو قاربنا على الاكتفاء الذاتي.

أرى أن تحدياتنا، نحن العرب، كثيرة، في مقدمتها أزمة الإدارة وتشعباتها، وأزمة التخطيط الجاد والعصري، وأزمة التعليم ومخرجاته، والتطبيق العادل للقانون، والعمل المؤسسي. تذكرت ذلك أمس الأربعاء، وأنا أستعد للمشاركة في أمسية حوارية بعنوان «العرب والتاريخ الجديد الذي يصنع الآن» التي أقامتها صحيفة «البيان» في مساحات «تويتر».

فعندما نتأمل أزمة الإدارة، نجد أن جذورها تصل إلى مشكلة متأصلة في بيئة العمل بالقطاع العام، وهي احتضان عدد هائل من المواطنين، كما هو الحال في بعض الدول. وهذا الوجود الكثيف أحدث ترهلاً وظيفياً، وبطالة مقنعة، وحالة من اللامبالاة مع وجود أجواء عمل غير محفزة على الإنتاجية، ولا يجد الموظف نفسه أمام تطبيق عادل لمبدأ الثواب والعقاب، ليفاجأ المتفاني بالعمل بأنه لا يحصل على ما يستحقه، ناهيك عما يطمح إليه، في حين يفلت المتقاعسون من العقوبات بشتى درجاتها. هذا الشعور يولد إحباطاً متراكماً في نفوس الأجيال، وكلما جاء جيل اصطدم بالواقع المرير للعمل.

وأؤمن بأن كثيراً من عيوبنا، نحن البشر، ليست مرتبطة ببيئة العمل، فنحن في غالب الأحيان نكون جزءاً من المشكلة عندما لا نتحدى الواقع، ولا نفعل ما بوسعنا، وسرعان ما نستسلم، مع أن لدينا صلاحيات إدارية واسعة يمكن أن «نشعل بها شمعة» بدلاً من لعن الظلام كما يقال.

والمشكلة الأخرى أنه في العمل المؤسسي أو المستدام ما أن تكتشف أن هذه المؤسسة أو تلك تعتمد اعتماداً كلياً على فرد أو أفراد حتى تسقط في اختبار الديمومة، فاستمرارية أو ديمومة العمل المهني المؤسسي تتطلب إيجاد بيئة عمل جماعي لا مكان فيها للمزاجية الفردية، ويجد فيها الفرد ما يقدره. ولا أقصد هنا فرداً بعينه يُقدر آخرين، بل نظاماً عادلاً في التقييم بدلاً من أسلوب المزاجية الحالي التي يقيم بها مدير واحد موظفيه. لماذا لا يكون هناك تقييم من جميع الاتجاهات الـ360، يُقَيَّم فيه الموظف من قبل كل من يتعامل معه، ولكن يعطى وزناً نسبياً أكبر للمدير لاعتبارات بديهية. التقييم مسألة مهمة جداً، لأنه ما أن يكتشف الإنسان أن تفانيه وتراخيه سواء، حتى يكف عن بذل المزيد من العطاء.

ولنتذكر أنه في منطقتنا لم يعد ينقصنا مختصون، فعددهم مقارنة بخمسين سنة ماضية هو عدد هائل ومذهل. وحتى يكون مستقبلنا الإداري مشرقاً، لا بد أن نضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وأن تكون هذه عقيدة إدارية راسخة في نفوس المسؤولين، وتدوّن في أنظمة صارمة تمنع التراجع عنها لصالح المزاجية، وذلك لسبب بسيط، فأن ننتقي الأفضل على الإطلاق لهذا المنصب فسوف يختار بدوره الأفضل، لأن المسؤول القوي يحب القوي، أما الضعيف أو الذي هبط بباراشوت لا يستحقه، سيعيش عقدة «الخواء» الذاتي لأنه يخشى من حوله.

ولا مستقبل مبهج يلوح في أفقنا، نحن العرب، إذا لم نحترم ونقدر فكرة التخطيط الاستراتيجي، ونعتبره أمراً جوهرياً يحرك كل قراراتنا وتوجهاتنا كمؤسسات خاصة وعامة. ومن ذلك تطبيق مؤشرات الأداء KPI في محاولة لرقمنة أو تحديد أهدافنا بدلاً من الجري خلف سراب لا يسمن ولا يغني من جوع، ولذلك أحرص دائماً أن أدرس هذه المادة بالجامعة، لأنها مهمة لكل متخذ قرار.

نحتاج كذلك إلى تطوير جذري للتعليم، لأن تراجعنا مرتبط ارتباطاً وثيقاً بتخلفنا التعليمي. وحجمنا الحقيقي يتضح في «تربعنا» في قعر قوائم المؤشرات العالمية لتقييم التعليم، كما أننا إذا أردنا المنافسة لا بد أن يكون لدينا آلية لضمان تخريج تخصصات تحتاجها البلاد بشتى قطاعاتها.

خلاصة القول، نحتاج إلى قادة يحملون لواء الإصلاح الإداري، شريطة أن تكون كل قراراتهم مؤسسية ومستدامة، بمعنى ألا ترتبط بهم كأفراد نحبهم ولا بهمة أفراد زائلين، لأن المطلوب وضع نظام دائم لكل شيء تقريباً على أمل أن يكون مستقبلنا أفضل حالاً من واقعنا الأليم، نحن العرب، مع استثناءات عدة.

 

* كاتب كويتي متخصص في الإدارة

Email