«المحاكم المتنقلة» ومراكز التحكيم

ت + ت - الحجم الطبيعي

تشير التقديرات إلى أن الهند قد تستغرق نحو 300 عام لإنهاء جميع القضايا المدنية. وبصفتي «محكماً تجارياً معتمداً» تثير اهتمامي هذه المعلومة وأستشعر أهمية دور التحكيم arbitration وتسريع إجراءات التقاضي والفصل بالمنازعات، فضلاً عن تخفيف الضغط عن كاهل المحاكم.

في الهند اضطر المسؤولون إلى تسيير «محاكم متنقلة» للفصل بين المتنازعين، وتخفيف الضغوطات على القضاة من جهة، ومن جهة أخرى لمحاولة بسط سلطان القانون وتجسيده على أرض الواقع ليرى الإنسان البسيط المحكمة، وكيف تقضي بالعدل بين المتخاصمين. وقد قرأت ذات يوم أن إحدى المحاكم المتنقلة في سيارة بإحدى المناطق قد تمكن قاضيها من الحكم في عشرين قضية بسيطة متنازع عليها في غضون ساعة واحدة فقط! وهذا الأمر يصور لنا حجم المعاناة في بعض القرى والأسواق الشعبية. ولذلك فقد استفادت الجمهورية الهندية من تأهيل بعض المتقاعدين الذين لديهم خلفية قانونية جيدة في القيام بهذه المهمة، بحسب صحيفة الجزيرة. وكان أحدهم يقضي بنحو 300 قضية في الشهر.

وكشخص عملت في عالم الاستثمار والعقار لعقدين، كان أول ما ننظر إليه بعد جدوى الفرصة الاستثمارية، هي مسألة إجراءات التقاضي، وسهولة خروج ودخول الأموال من دون عراقيل ومثالب قانونية. فمهما كان الاستثمار مجزياً، يبقى طول إجراءات النظام القضائي أو ضبابيتها بالنسبة لنا كمستثمرين أجانب مسألة طاردة مهما كانت جاذبية الاستثمار. ونحن نتحدث عن مليارات كان يمكن أن تستفيد منها البلدان لو أنها سهلت إجراءات التقاضي وسرعتها. فكم من شركة عالمية ومشروع عقاري عملاق يود أن يكون له موضع قدم في بعض المناطق، لكن الشق القانوني كثيراً ما يدفع البعض نحو التردد أو التراجع.

وكحل سريع، تلجأ بعض الدول إلى تفعيل نظام «التحكيم» وذلك بأن يضاف بند في العقد «شرط» ينص على أنه «في حال نشوء نزاع بين الطرفين حول هذا العقد أو تنفيذه أو إلغائه أو فسخه يحال إلى التحكيم» وفق إجراءاته في الدولة الفلانية. والخطوة الأولى التي تسبق التحكيم هي محاولة «التوفيق» وهي لجنة أو فرد يحاول الوصول إلى «حل ودي» أو مرضٍ للطرفين. أما هيئة التحكيم فهي فرد أو أكثر يبتون نهائياً في نزاع معين. فعلى سبيل المثال، إذا ما طلب مستثمر أو فرد من شركة ما تطوير عقار أو مجموعة عقارات ثم أخفقت الشركة في تنفيذ أحد البنود، فإنه يلجأ للتوفيق الودي وإذا لم يكتب له النجاح يلجأ للتحكيم (حسب اتفاق سابق للطرفين). وهي آلية يُختار فيها محكمون معتمدون للبت في النزاع الدائر. وفي بعض الأحيان تنتقي هيئة التحكيم أو التوفيق «خبيراً» في مجاله لتزويدها برأيه الفني سواء بالتأمين أو بتخصص علوم الحاسوب أو الهندسة وفروعها وغيرها.

وعلاوة على أن التحكيم يخفف من وطأة القضايا عن كاهل المحاكم، ويسرّع في إعادة الحقوق إلى أصحابها، فإنه أيضاً حكم نهائي وبات. ولذا حينما يرى القضاة في بعض المحاكم أن هناك «شرطاً للتحكيم» قد كتب في العقد، فإنه يتأكد من مدى صدور «حُكم» التحكيم بهذا الشأن قبل قبول الدعوى القضائية.

وهي فكرة قديمة منذ فجر التاريخ حينما كان الإنسان البسيط يبحث له عن شخص أمين ونزيه وعادل ليفصل بينه وبين خصمه، شريطة أن يُجمِع على عدالته الطرفان. وتطور هذا المفهوم إلى مراكز التحكيم التجاري في العالم حتى بلغ عددها المئات. وهي شبه «محكمة تجارية سريعة» إن جاز التعبير. وما أحوجنا في هذا العصر إلى من يسهم في تقليل القضايا المنظورة بالسلطة القضائية وإشاعة ثقافة «التوفيق والتحكيم» بدلاً من المحاكم لإعطاء كل ذي حق حقه بأسرع مدة زمنية ممكنة.

* كاتب كويتي متخصص في الإدارة

Email