عيون لوجوه بلا ملامح

ت + ت - الحجم الطبيعي

أن يرسم موظف أشكالاً ذات معنى أو بدونها، على صحيفة مثبتة أمامه، أو ظهر إيصال قديم، أو محرمة ورقية، فهذا أمر عادي. وأن يتمتع الموظف بموهبة فنية، تظهر في خطوط تلقى استحسان زملائه، أو يقتصر الأمر على مجرد خربشات أو خطوط متداخلة، فهذا أيضاً لا يلفت الانتباه، أو يستدعي التفكير.

لكن أن يقرر موظف أمن قائم على حماية لوحات رسمها فنانون مشهورون، ومعروضة في «غاليري» يرتاده عشاق الفن ومحبو الرسم، الإمساك بقلم، ويضيف عيوناً لوجوه في لوحة اختارت صاحبتها أن تكون بلا عيون، فهذا أمر يستحق التأمل.

المؤكد أن موظف الأمن في «مركز بوريس يلتسين الرئاسي»، المعروف بـ «مركز يلتسين» الثقافي الاجتماعي التربوي في مدينة يكاترينبورغ الروسية، أمضى بعض الوقت في تأمل اللوحة المنتمية إلى الفن الطليعي «Avant garde»، والتي رسمتها الفنانة آنا ليبروسكايا بين عامي 1932 و1934.

ربما الموظف لا يدرك فلسفة الفن الطليعي المعتمدة على مناقضة كل ما هو تقليدي، من حيث الشكل والمعنى. أغلب الظن أنه اعتبر التقليدي، أن يتم رسم الوجه بعينين وأنف وفم، وأن غير التقليدي، هو غياب ما سبق.

وبعيداً عن أن اللوحة مؤمنة بمبلغ 75 مليون روبل (نحو 1.3 مليون دولار أمريكي)، أو أن مسؤولي المركز رفدوه صباح اليوم التالي، أو أن اللوحة تم نقلها على الفور إلى «غاليري تريتياكوف الوطني» (موطن الفن التشكيلي في روسيا)، والذي أعارها لمركز يلتسين، لبحث ما لحق باللوحة، أو تقييمات الأولية، لدرجة اختراق قلم موظف الأمن لطبقات اللوحة، وحجم الخسارة، وإمكانية التصحيح، تستحق الفعلة كثيراً من التفكر والتأمل.

الموظف، الذي فقد عمله نتيجة العيون الأربع، التي أضافها إلى اللوحة ذات الوجوه الثلاثة، تاركاً أحدها دون إضافات، تأمل وفكر، قبل أن يقرر أن يأتي بالقلم ويخط به على اللوحة. هناك وجهة نظر، ترى أنه قام بذلك بسبب الجهل بمعنى وقيمة الفن، أو عدم معرفة قواعد الفن الطليعي، حيث لا التزام بالقواعد، أو أنه قام بذلك، بفعل الضغط العصبي والنفسي الناجمين عن ظروف معيشية صعبة، أو أنه اعتقد أن إضافة العيون أمر طبيعي، وربما يلقى قبولاً، بل واستساغة من قبل المديرين. ولم لا، وقد أكمل ما لم يكن كاملاً؟!

وهناك من شم رائحة انتقام أو حقد طبقي. فكيف للوحة فشلت صاحبتها أو نسيت أو تجاهلت، أو لم تتكبد عناء إنهائها كما ينبغي (بحسب رؤيته)، برسم العيون للوجوه المبهمة، أن تلقى هذا القدر من الاهتمام والتبجيل، وتجد من يدفع ملايين الروبلات لتأمين وجوه بلا عيون، بينما هو يمضي ليله ساهراً محدقاً في وجوه مطموسة المعالم، ثم يتقاضى فتاتاً في نهاية الشهر؟!

تشويه الأعمال الفنية، ليس وليد الأمس. والتاريخ حافل بآلاف من عمليات التشويه الفني، بعضها على أيدي أشخاص عابرين، أو مراهقين غاضبين، أو أفراد منفلتين، أرادوا تدمير ما لا يدركون قيمته أو يدركونها، لكن رغبتهم في الإعلان عن وجودهم، تفوق إدراكهم للقيمة. وهو حافل أيضاً بعمليات تشويه مقصودة، وذات أهداف ورسائل يؤمن مقترفوها بأنها رسائل أيديولوجية، أو قيم فكرية، أو أهداف سامية، ترتكز على الحق والخير والجمال.

الحق والخير والجمال قوام الفن، أو هكذا يفترض. لكن هناك حق وخير وجمال في فكر أناس عاديين، أو هكذا يفترض. وبين الحقين والخيرين والجمالين، أرضية مشتركة، تسعى إلى عالم أفضل. روبين هود، الفارس الطائش الشجاع، الخارج على القانون من أجل الفقراء والمساكين والمظلومين، كانت له رؤية، نحتفي بها حتى اليوم.

هذا لا يعني بالطبع الترويج للخروج على القانون، أو الإعلاء من شأن تشويه الفنون، لكنه يعني أهمية النظر لما وراء الأحداث والحوادث، لا سيما تلك التي تحمل لغزاً إنسانياً، أو غموضاً فكرياً.

فهم ما وراء حوادث كتلك، لا ينبغي أن يقف عند حدود تصريح مدير المركز، الذي يرجح أن يكون موظف الأمن مختلاً عقلياً، أو تأكيد مسؤول الأمن، بأن الموظف قد يسجن، أو يسدد غرامة، أو كليهما. فهم المجتمعات وما يجول فيها، واجب. واستباق مثل هذه الأحداث والحوادث، وحسن التعامل معها، بالإضافة إلى التعاملين الطبي والأمني، وارد بالفهم والتحليل.

تحليل كل تشويه متعمد لعمل فني كبير، في ضوء المرض أو الخلل النفسي، لا يكفي. وهناك الكثير من أعمال الرصد والتحليل الاجتماعي، التي تجري في دول عدة، أغلبها غربية، لحوادث تشويه الأعمال الفنية، من لوحات وتماثيل وغيرها. الخسارة التي تنجم عن التخريب فادحة، لكنها تفتح باب مزيد من الفهم للمجتمعات، التي ربما تكون وجوهاً بلا عيون وملامح، وتنتظر من يفهم ما يجول فيها، بعيداً عن السطح.

* كاتبة صحافية مصرية

 

Email