يهتم كثير من الكتاب والباحثين والصحفيين بالتنافس الجيوسياسي عن التنافس الجيواقتصادي. واليوم أصبح الجيواقتصادي عاملاً مهماً في التنافس الجيوسياسي، بل يستخدم الجيواقتصادي في كثير من الأحيان لتحقيق مآرب جيوسياسية. وقد يكون العكس صحيحاً أيضاً.

ولكن أهمية الجيواقتصادية تنبع من انحدار الحروب بين الدول على الأقل، إذا ما قيس بعدد الوفيات في الحروب. ورغم أن هذه المقولة لها وجاهة، إلا أن البعض يراها خلافية لجهة القياس. لا يهمنا الولوج في أدبيات الموضوع بقدر ما يهمنا بروز العامل الجيواقتصادي في العلاقات الدولية.

ويعرف كتاب الحرب بوسائل أخرى: الجيواقتصادية وفن الحكم، الجيواقتصادي بأنه «استخدام الأدوات الاقتصادية لتعزيز الدفاع عن المصالح الوطنية، وتحقيق فوائد جيوسياسية؛ وتأثير الإجراءات الاقتصادية على الأهداف الجيوسياسية للدول الأخرى».

وترى الدول أن الجيواقتصادية أقل كلفة من الوسائل العسكرية على الأقل في المدى المتوسط. ولا يسقط ضحايا من الدولة التي تفرض عقوبات اقتصادية بغية الوصول إلى مكتسبات جيوسياسية. ويبدو أن استخدام الأدوات الاقتصادية والتي قد تكون باهظة من الناحية الاقتصادية والمالية، إلا أن تكلفة وقوع ضحايا في الحروب لها مردودات سياسية أكبر على القادة السياسيين.

ويذكر البعض أن مصطلح الجيواقتصادية ولد من رحم انتهاء الحرب الباردة، والتي أدت إلى استخدام الأدوات الاقتصادية بدلاً من القوة العسكرية. وأصبح الاقتصاد المحرك الأول للعلاقات الدولية والصراعات على المصادر الاقتصادية والأسواق التجارية. ورغم ما نرى من صراعات على مستوى متدنٍ، مثل الإرهاب والحروب الميليشاوية، وبعض الحروب على الحدود بين الدول أو حركات مسلحة ــ كما يحصل في إثيوبيا أو بين أذربيجان وأرمينيا ــ إلا أن التنافس الاقتصادي المحتدم بين الدول الكبرى والمتوسطة والصغيرة تشغل حيزاً أكبر.

وتشير أحد المصادر إلى أن الرئيس الراحل ريتشارد نيكسون قال في كتابه «اغتنم الفرصة» الذي نشر في 1992، أي بعيد الحرب الباردة، إنه مع انتهاء الحرب الباردة، أصبحت القوة الاقتصادية والجيواقتصادية أكثر أهمية من القوة العسكرية والجيوسياسية «على أمريكا ألا تضرب السيوف إلى محاريث «كما يقول الكتاب المقدس» بل إلى رقائق إلكترونية».

ولم يكن الاقتصاد يوماً غائباً من الصراعات والتنافس الدولي، إلا أن القضايا الأمنية طغت على مجمل العلاقات الدولية. وفي فترة الحرب الباردة، كان الصراع على كل المحاور السياسية والدبلوماسية والثقافية والعسكرية والاقتصادية والأيديولوجية، لأن الاتحاد السوفييتي كان يمثل تحدياً في كل المجالات، بل أن السوفييت يقدمون أنفسهم كنموذج بديل للولايات المتحدة والغرب عموماً.

ويعتبر صعود الصين كقوة جيواقتصادية وازنة على مستوى العالم، أحد الأسباب لتزايد الاهتمام بالجيواقتصادية. وتتخوف الدول الغربية أن التمدد الاقتصادي الصيني من خلال التجارة والاستثمار والمديونية والمساعدات الاقتصادية، سيؤدي حتماً إلى نفوذ جيوسياسي واسع في أطراف المعمورة. ولا تقدم الصين نموذجاً أيديولوجياً كبديل للتجارة الحرة والانتقال السلس للرساميل والتي طالما تغنت به الولايات المتحدة؛ بل إن الصين تستخدم الاقتصاد الحر للتوسع الجيوسياسي. وقد تكون الصين بديلاً مهماً للغرب لأنها لا تسعى لأن تفرض أجندتها السياسية أو أنماطها الثقافية. فهي شريك اقتصادي مريح لكثير من الدول، والتي تعاني من تدخلات الدول الغربية، خاصة بمزاعم متعلقة بحقوق الإنسان من وجهة نظر غربية.

وقد شهدت المنطقة استخدام الموارد الطبيعية كسلاح جيو اقتصادي. ولعل أشهرها يوم أعلن الزعيم الراحل المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، بفرض حظر نفطي للدول الداعمة لإسرائيل في حرب أكتوبر 1973. وقد كان لتلك الخطوة آثارها الكبيرة في المفاوضات الدبلوماسية بين مصر والوسيط الأمريكي هنري كيسنجر في فك الاشتباك بين القوات المصرية والقوات الإسرائيلية في سيناء.

وعلى نفس المنوال، استطاعت الولايات المتحدة والدول الغربية جلب إيران إلى طاولة المفاوضات وتقديم تنازل في قضية النووي عبر سلسلة من العقوبات الاقتصادية التي تم فرضها على إيران. كما أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مارس ما سمي بالضغوط القصوى لإجبار إيران على تقديم تنازلات أكبر لتعديل الاتفاق النووي المبرم مع إدارة أوباما في 2015.

وفي الوضع الحالي، نرى كيف أن الدول الغربية تهدد باستخدام الاقتصاد في ردع روسيا عن غزو محتمل لأوكرانيا. كما أن الدول الغربية تخشى من ردة فعل روسيا وحظر تصدير الغاز الطبيعي إلى الدول الأوروبية المعتمدة على الغاز الروسي. وقد سعت واشنطن إلى تغطية الانكشاف الأوروبي للضغوط الروسية لوقف تصدير الغاز، ومحاولة التعويض من مصادر أخرى مثل قطر.

وإذا ما نجحت الدول الغربية في منع اندلاع حرب بين روسيا وأوكرانيا، فإن الكثير سيدعون لاستخدام السلاح الاقتصادي بدلاً من القوة العسكرية بشكل متزايد. ولكن مهما يكن الأمر، فإن الجيواقتصادية سلاح ذو حدين قد تقطع مستخدمها مثل ما تقطع خصومه!

 

* كاتب وأكاديمي