هوس النبش!

ت + ت - الحجم الطبيعي

تحدث الأمور دوماً لحكمةٍ خفية قد تغيب عن أذهاننا، كما قد نثق بأذهاننا كثيراً ونظنها قادرة على حُسن قيادة مساراتنا في الحياة، فنكتشف لاحقاً أنها قد تاهت وأضاعتنا معها!

في بدايات هذا الشتاء ذهبت في رحلة قنص لمدة أسبوعين، وللمرة الأولى أجدني أُعاني مع تعذّر وجود شبكة هاتف، فضلاً عن وجود إنترنت، من ساعات الفجر الباكرة حيث نخرج، ولحين عودتنا عند مغيب الشمس، كان الشعور صعباً ومزعجاً فقد ألِفت أصابعي العبث بشاشة الهاتف وهي تنقلني من تطبيق لآخر، ومن خبرٍ لثانٍ، ومن رسالة إلى أخرى، ذاك الشعور المزعج بدأ يتلاشى مع اليوم الثاني والذي يليه، بل أصبحت أجد مُتعةً أكثر في الهدوء وشعور الطمأنينة في تلك الصحاري الشاسعة، وكأنني أعدت اكتشافي للتواصل مع من حولي بعيداً عن الوجود البدني والغياب الذهني للجميع كما اعتدنا وألفنا في مجالسنا، لم تتوقّف الحياة لأنني لم أجد وسيلة لولوج منصات «تويتر» وأمثالها، ولكن أدركت حجم الثقل النفسي الذي كان ينهال على نفسي كلما غرقت أكثر وأكثر في منصات التواصل الاجتماعي!

الهَوَس بالنبش والانسياق مع توالي الصفحات نزولاً في «تويتر» و«انستغرام» و«سناب شات» و«تيك توك» والبقية، وصلت لمرحلةٍ مَرَضَيّة لدى الغالبية من البشر، وحتى أولئك الذين يظنّون أنهم متحكّمون في «وَضْعِهم» واهمون، فيكفي أن تخرج وتعود للتطبيق سريعاً وتحاول الوصول للخبر أو المنشور أو الفيديو الذي توقفت عنده لتعرف كم غرقت وأوغلت في منشوراته دون أن تشعر، وأضعت بذلك أوقاتاً ثمينة بحثاً عن شيء تظنه سيُريحك ولا يفعل إلا العكس!

هذا الهوس البحثي أو ما يُسمى Doomscrolling يُجيد من صمّم تطبيقات الهواتف والحواسيب تغذيته وإشعاله أكثر وأكثر، فهم يلعبون على وتر الفضول لدى الإنسان والرغبة الدفينة لمعرفة المستتر والجديد «جداً» وما لا يعرفه غيره، سيبقى إصبعه يحرك الشاشة للأسفل لمعرفة القادم، هناك معلومة عظيمة آتية في الطريق، خطأ كبير يقع فيه أكثر البشر وسيتمكن هو من تلافيه، فرصة لا تعوّض قد تفوت لو توقف إصبعه عن سحب الشاشة، حقيقة مستترة لن يعلمها سواه من أصدقائه على الأقل وكم سيكون لامعاً ومحط أنظار لو قالها بينهم وتعلموها منه، اللافت أنّ أغلب الأخبار سيئة ومن يتفاعل معها في الردود يُثير الكثير من الشكوك في كل شيء، وتزيد معه حالة عدم الرضا لتَعُمَّ كل شيء تقريباً عند الكثيرين!

ما زاد أُوار هذا الهوس كانت شهور جائحة «كوفيد 19» الطويلة، فشعور الارتياب والقلق ثم الخوف والهلع الذي عمّ الكرة الأرضية، وأيام حظر التجوّل المربكة الذي لم يتوقعه أحد ولم يعرفه إلا في أفلام الخيال العلمي، كل هذا جعل الأغلبية تجد ملاذها في التسمّر ليل نهار على شاشات الهواتف بحثاً عن مخرج أو بارقة أمل، وضاعت معه البشرية بين مسارين متضادين: مسار يرى الجائحة كارثة عمّت البشرية ولا بد من أخذ كل الاحتياطات لها من إجراءات احترازية وجرعات لُقاح، ومسار يرى كل ما في الأمر مؤامرة كونية تُديرها قوى الشر المتحكمة بمصير العالم من خلف الكواليس، ولا يتلاقى المساران إلا في بقاء تلك الأصابع في تحريك الشاشات بحثاً عمّا يُخفف قلقهم أو يُؤيد طرحهم!

الوضع الحالي أصبح خارج السيطرة تقريباً، ولن ينتهي هذا الهوس على ما يبدو، فقد أصبح كما تقول الكاتبة الأمريكية الساخرة إيميلي بيرنستين: «الأمر يُماثل عندما يصعب عليك أن تتوقّف عن النظر وأنت ترى أمامك حادث سير»، ومهما زادت حالات الضيق والقلق والارتياب في كل شيء مع هوس النبش هذا، لكن الناس لا يتوقفون، فقد أصبحت شاشات الهواتف أشبه بأجهزة القمار التي لا يستطيع الإنسان التوقف معها رغم أنه يواصل خسارة أمواله، لأنه ينتظر ابتسامة حظ عظيمة تمحو كل خسائره!

هذه معركة شخصية على كل فرد أن يخوضها بنفسه إن أراد إنقاذها من أحمال القلق والاكتئاب وضياع الأوقات فيما لا طائل من ورائه، وقد يكون أحد الحلول هو تبني خيار «التباعد الاجتماعي» الذي تقبلناه رغماً عنا حفاظاً على سلامتنا وسلامة الآخرين، ولكن هذه المرة ليكون بيننا وبين أجهزتنا الذكية، ونكتفي بساعتين فقط للتنقّل بين تلك التطبيقات أو أقل، فالدنيا لن تتوقّف إنْ لم نتابعها، ولكننا سنكتشف جمال الحياة بدونها من جديد، حياة دون قلق، حياة دون نبش!

* كاتب إماراتي

Email