إن الأفكار التي تهدد الأوطان كثيرة، ومنها الأفكار التحررية التي تناهض القيم والمبادئ، وتروّج لأيديولوجيات متطرفة في شأن الحريات، وتتاجر بحقوق الإنسان لنشر أجندات عبثية وأفكار عدمية تلوث العقول وتهدم الفطرة وتكسر الروابط الأخلاقية والقيم المجتمعية والمبادئ الوطنية والموروثات الدينية والثقافية.
والمشكلة الكبرى حينما تتحول هذه الأفكار التحررية إلى أيديولوجيات وتيارات يسعى أصحابها لبثها بل فرضها على الدول والمجتمعات، تحت ستار الحريات وحقوق الإنسان، ويتم التسويق لها بشكل ممنهج، باسم منظمات وناشطين وناشطات وعبر أدوات التأثير الناعمة والمنصات الترفيهية العالمية التي لا تستهدف مجرد تحقيق متعة عابرة، بل تتضمن غزواً ممنهجاً لكسر حدود المحرمات وإطلاق الإباحية من عقالها، ابتداءً من الإلحاد وبث الأفكار العدمية التي تلغي أي معنى للحياة، ومروراً بالتفسخ الأخلاقي وممارسة الجنس خارج الزواج والشذوذ الجنسي فيما يسمى بالمثلية، وانتهاءً بالتمرد على الأسرة والمجتمع وهدم الأنظمة وبث الأفكار الثورية وإضعاف روح الانتماء للأوطان والترويج للعنف والإرهاب والجرائم المنظمة.
ويتم الترويج لذلك في إطار الحريات والحقوق التي يجب صيانتها، بل يتجاوز الأمر كل الحدود حينما يتم التحبيذ لها كأفكار مثالية يجب نشرها والترويج لها والعمل على إبرازها وإظهارها في المجتمعات، فالإلحاد يصبح قمة العقلانية والرقي العلمي، والشذوذ الجنسي قمة التصالح مع النفس بل حتمية بيولوجية، والتمرد على المجتمعات والأوطان قمة الشجاعة والبسالة والتحرر، ويصبح في المقابل نقد هذه الأفكار التحررية تطرفاً وتخلفاً وانحطاطاً!!
ولقد شهد الواقع المر على أن هذه الأفكار التحررية لم تخدم البشرية في شيء، بل كانت محاضن للعنف والإرهاب وهدم الأوطان، فقد خرجت من رحم الأفكار التنويرية المتطرفة التي ابتدأت بالثورات وهدم الأنظمة وممارسة العنف والإرهاب كما حصل في الثورة الفرنسية، وأفرزت تالياً الحروب الاستعمارية التي سعت لفرض الحرية المزعومة على العالم بالحديد والنار، واتخذت ذلك ذريعة لاستعمار الدول واستعباد الشعوب ونهب الخيرات، كما حصل في الحروب النابليونية التي وُصفت بحروب التنوير والتحرير، ثم ولاحقاً وفي ظل هذه الأفكار صعدت الفاشية والنازية والشيوعية، وأغرقت أوروبا في أكثر الحروب العالمية تدميراً وإرهاباً على مر التاريخ، والتي طحنت أوروبا طحناً، وراح ضحيتها الملايين من البشر، وتم ضرب مدن بالقنابل وقتل النساء والأطفال، وإلقاء القنابل الذرية، وفي خلال ساعات بل دقائق قُتل مئات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال في مدينة واحدة، وكلٌّ يدّعي أنه يقاتل في سبيل الحرية والتمدن.
ومن رحم هذه الأفكار التحررية خرجت التصورات المتطرفة لتشكيل المجتمعات المثالية من منظور تلك الأيديولوجيات، ونشأت الأحزاب والتيارات الراديكالية التي سعت لتنفيذ تصوراتها على أرض الواقع، والتي ثارت على كل القيم الثقافية والدينية وعلى الأنظمة السياسية، وسعت إلى اقتلاعها من جذورها، وخططت بكل السبل للوصول إلى سدة الحكم، وإطلاق الثورات كما حصل في القرن الماضي، وكلُّ تيار كان يدّعي أنه يحمل أعظم نظرية تنويرية لنهوض الأمم وتحررها، ولم تكن النتيجة إلا تلك الصراعات الرهيبة والحروب المدمرة.
وفي هذا الإطار تم هدم كل القيم الإنسانية، وبرزت الأفكار العنصرية في أشنع صورها، وظهرت مفاهيم ظلامية حول الخير والشر والسعادة والنهضة والحرية، وقامت بعض هذه الأفكار على ازدراء الضعفاء والمرضى وذوي العاهات، وهدم قيم الرحمة والتعاطف، واعتبار ذلك رذيلة وضعفاً، حتى قال نيتشه: «إن المرضى يشكلون أكبر الخطر على الإنسان، لا الأشرار، ولا الحيوانات المفترسة، إن المنكوبين والخائبين وذوي العاهات هم بالذات أولئك المعاتيه من بين البشر، هم الذين يسممون ثقتنا بالحياة وبالإنسان وبأنفسنا»!! وقال: «مسألة الاعتناء بالمرضى ومعالجتهم لا يسعها أن تكون من واجب الأصحاء»!! وظهر الكثير من أمثال هذه المفاهيم الظلامية التي صاغت التنوير والنهضة وفق تصورات لا تمت للإنسانية بصلة.
وتدرجت هذه الأفكار وتسلسلت إلى أن وصلت إلى درك الأفكار العدمية، التي تلغي أي معنى للوجود، بل وصلت في بعض صورها المتطرفة إلى التشكيك في العالم المحسوس، وتشكيك الإنسان في وجوده كإنسان، ومحاولة إقناعه بأن كل ذلك قد يكون محض أوهام، حتى أضحى ذلك مادة دسمة لبعض المواد الإعلامية، وإذا انقطعت صلة الإنسان بنفسه كإنسان فأي صلة له بعد ذلك بأسرة أو مجتمع أو وطن!!
إن الحريات والحقوق لا تنفصل عن القيم والأخلاق، ولا حضارة تنهض إلا برقي أبنائها، وبسموِّ قيمهم التي تبني العقول، وتدعو للعلم والمعرفة، وتعزز الوازع الإيماني، وتبث قيم الرحمة، وتحافظ على الأوطان، وتحمي أمنها واستقرارها، لتبقى منارة للخير والنور للبشرية جمعاء.