جردة عربية شبه أفلاطونية

ت + ت - الحجم الطبيعي

جردات نهايات العام تستدعي دائماً حساباً على ما فات وتخطيطاً لما هو آتٍ. على مستوى الأفراد وكذلك العائلات والمجتمعات والدول يحدث مع نهاية كل عام نوع من الحسابات لما تم أو لم يتم إنجازه، وما يستحب إحرازه في العام الجديد. إنها سمة النهايات التي تؤدي إلى بدايات جديدة.

وليس خفياً على أحد أن سكان الأرض من دون استثناء يخوضون المرة الثانية على التوالي موسم حسابات وتخطيطات فريداً من نوعه غير مسبوق على الأقل في التاريخ الحديث.

ففي نهاية عام 2020، ظن سكان الأرض أن العام الذي يلملم أشياءه استعداداً للرحيل سيصطحب معه كوفيد 19 بمتحوراته ومتعلقاته من دون شك. ربما هذا ما يسمونه «التفكير الرغبي» أو التفكير الذي يطغى عليه التمني والرغبة أكثر من الواقع.

الواقع يخبرنا في نهاية العام الثاني من عمر الوباء أن عام 2021 آثر الرحيل وهو يحمل أقل القليل. سيخلف وراءه كوفيد 19 ومتحوراته، تاركاً العالم يضرب أخماساً في أسداس حول سبل التعايش والتعامل. ولكن الفرق بين نهاية 2020 ونهاية 2021 يكمن في الخبرة المكتسبة، وهي الخبرة التي تختلف من شخص وأسرة ومجتمع ودولة إلى أخرى.

الحاذقون فقط والواقعيون وحدهم والمرنون دون غيرهم هم من سيدخلون عام 2022 بابتسامة تنير قلوبهم قبل عقولهم. لماذا؟ لأنهم، رغم القلق وعدم اليقين مما قد يحدث غداً، اكتسبوا قدراً من المناعة النفسية. مكونات هذه المناعة تتراوح بين القدرة على الاستجابة للأزمات، ووجود خطط بديلة في ردود الفعل وقبلها قواعد استباقية، والتعلم من خبرات مكتسبة على مدار عام من عمر الوباء في العمل والتعليم والصحة والترفيه والإعلام. ولكنها أيضاً تحتوي على مكونات نفسية تتعلق بقدرة كل منا على التعامل مع العالم الذي تغير كثيراً في عام مضى. هذه المكونات النفسية تختلف من شخص لآخر، ولكنها تبقى قابلة للتطويع والتحسين والتطوير.

مجال آخر لم يتم تطويعه، ولم تطرأ عليه تحسينات أو يشهد تطورات للأفضل هو مجال الصراعات والحروب، التي تزخر بها منطقتنا وتضع نفسها على رأس قائمة أكثر مناطق العالم اشتعالاً. ولو قدر للمنطقة العربية أن تجري جردتها الخاصة بها وتضع خطتها للعام الجديد لوضعت «إنهاء الصراعات» على رأس قائمة الأفعال التي يجب أن تشعر بالأسى تجاه هيمنتها على عام مضى، وعلى رأس قائمة قرارات العام الجديد بغية إنهائها.

إنهاء الصراعات لم ولن يحدث يوماً بجرة قلم أو قرار مفاجئ. الصراعات تحدث نتيجة الانشغال والإغراق والإفراط في ما لا ينفع وفي الوقت نفسه يضر. والأمم التي أغلقت ملف الصراعات المسلحة وما ينجم عنها من قتل وتهجير ونزوح وتراجع وابتعاد عن مسار الحضارة والإنسانية، باتت تضع جل وقتها وجهدها وإمكاناتها لرفعة شعوبها وتقدمها. صحيح أن الصراعات سمة من سمات البشرية. وصحيح أن الصراعات ستبقى ما بقيت الحياة على ظهر الكرة الأرضية، ولكن فرقاً كبيراً بين الصراعات الاقتصادية حيث منافسة ضاربة على هيمنة مالية، أو السياسية حيث التناحر الدبلوماسي على المكانة والأهمية، أو الاجتماعية حيث سباق لتحقيق القدر الأكبر من الرفاه من جهة، وبين الصراعات الجسدية الفعلية التي تتنافس من أجل الزج بالمتصارعين إلى العصور الوسطى والعمل على إبقائها هناك عبر التأكد من إبقاء الفتيل مشتعلاً.

الفتيل في منطقتنا مشتعل. وعلى الرغم من جهود دول عدة في المنطقة لإخماد النيران، إلا أن جهوداً أخرى عديدة تعمل على الإبقاء عليها قابلة للاشتعال دائماً وأبداً.

وفي ظل وباء دفع الإنسانية دفعاً لإعادة التفكير والترتيب في كل تفاصيل الحياة من أكبرها إلى أصغرها، ربما حان الوقت لأن تلتفت المنطقة لحقيقة مفادها أن الصراعات بالشكل الدائر حولنا لا ينتج عنها منتصر وخاسر، بل الجميع خاسرون والجميع يدفعون أثماناً باهظة.

يبدو الكلام أفلاطونياً مائلاً إلى قواعد المدينة الفاضلة حيث السعادة للجميع والممتلكات للعامة والتعاون دستور والمساواة قدر الإمكان واجبة. ولكن أوضاع المنطقة العربية في ظل ما تعانيه من صراعات لم تخمد على مدار عقود بين عقائد وانتماءات وأيديولوجيات ومصالح محدودة مع إضافة الوباء تدعو إلى النظر لجردة عام مضى وخطة عام جديد بشكل مختلف. المثل الشعبي العبقري يقول «عقله في رأسه يعرف خلاصه»، ونحن في أمس الحاجة لوضع عقولنا في رؤوسنا.

رأس السنة الجديدة 2022 يبدأ بعد أيام قليلة. ونتمنى أن تبدأ معه رؤى عربية جديدة لمنطقة أعيتها الصراعات. المنطقة مؤهلة لمكانة أفضل مما هي فيه بكثير. ويكفي أن دولاً مثل مصر والإمارات والسعودية والبحرين تمتلك من القدرات والخبرات البشرية والمادية ما من شأنه أن يدفع بالمنطقة كلها لبر الأمان. الأمان ليس فقط وقاية أفراد من فيروس أو حماية شعب من فقر. الأمان يعني وقاية للمنطقة من شرور الصراعات وحماية لها من ضلالات انتصارات لا وجود لها إلا في الخيال.

Email