إدارة عموم الوزّة

ت + ت - الحجم الطبيعي

كنت أبحث عن مثال للبيروقراطية، التي هي نقيض للثورية في الإدارة الحديثة، عندما وجدت مقطع فيديو من مقابلة أجرتها الفنانة صفاء أبو السعود مع الممثل الراحل حمدي أحمد، يتحدث فيها عن حادثة طريفة عايشها عندما كان في فرقة التلفزيون المسرحية.

يقول الفنان حمدي أحمد إنهم كانوا يعملون في مسرحية اسمها «المفتش العام». وكان في أحد المشاهد وزّة حية تظهر على المسرح، وكانوا يدفعون للسيدة التي يستأجرون منها الوزة 25 قرشاً في الليلة، فقال أحدهم إن المبلغ الذي سيدفعونه لصاحبة الوزة عند انتهاء عرض المسرحية سيكون 100 جنيه، في حين أن ثمن الوزة نفسها 5 جنيهات، واقترح أن يشتروا الوزة توفيراً للنفقات، فاشتروها فعلاً بهذا المبلغ. ولأن الفرقة تتبع القطاع العام، طلبت الحسابات فاتورة بالوزة، فأحضروا صاحبة الوزة وطلبوا منها بطاقتها الشخصية، وبَصّموها على الفاتورة. بهذا أصبحت الوزة ملكاً للحكومة، وعليه يجب إدخالها المخازن. دخلت الوزة المخازن، ولكن يبدو أن أحدهم تركها دون ماء فماتت، وخضع جميع أعضاء الفرقة للتحقيق من قبل النيابة الإدارية لمعرفة المتسبب في موت الوزة، ولماذا اشتروها، وتحقيقات انتهت بعمل محضر أثبتوا فيه عن طريق الطبيب البيطري موت الوزة كي يتمكنوا من إغلاق ملفها.

ذكرتني حكاية الوزة بقصة «إدارة عموم الزير» التي كتبها الدكتور حسين مؤنس، ونشرت عام 1975. تقول القصة إن أحد الولاة كان يقوم بجولة في مناطق الولاية، وكان الحر شديداً. وحدث أن وقف وحاشيته يستظل من أشعة الشمس تحت شجرة وارفة الظلال، فاسترعى انتباهه أن الناس ينحدرون إلى النهر ليشربوا، ولاحظ المشقة التي يعانونها في ذلك، فاقترح على وزيره وضع زير ماء بحمالة وغطاء تحت الشجرة، ودفع لحارس يدعى صابر عشرة دنانير كي يشتري الزير ويغسله، ويملأه ماء، ويضعه تحت الشجرة، وأمر الوزير بالإشراف على موضع الزير، لأنه يريد أن يكون الزير نظيفاً دائماً، وأن يشرب الناس منه ماء صافياً زلالاً.

مرت أيام وشهور، ثم حدث أن كان الوالي يتحدث مع الوزير في شؤون البلاد، فرأى زيراً صغيراً تحت شجرة، فالتفت إلى الوزير وقال: هل تذكر الزير الذي وضعناه تحت الشجرة ليشرب منه الناس، أما كانت فكرة لطيفة؟ قال الوزير: لطيفة؟ إنها فكرة عبقرية يا سيدنا. لقد عدلناها وطورناها! قال الوالي مستغرباً: ماذا تعني بتطويركم إياها؟ زير وغطاء وماء وكوز. كيف يمكن أن تتطور هذه؟!

شرح الوزير كيف أنهم عندما وجدوا إقبال الناس على الزير يزداد قرروا تحويله إلى مرفق شعبي عام. وهكذا، ومن أجل الزير، تم إنشاء إدارة، فالدولة لن تدع مالها وممتلكاتها سائبة، وما دام للدولة مبنى فلا بد من موظفين وإدارة مالية. وهكذا تم فتح اعتماد مالي لمأمورية الزير، ووضعت خزانة للنقود تم إيداعها سلفة، لأن الزير قد ينكسر، والغطاء قد يتلف، والكوز قد يضيع. ثم تم إنشاء أربع إدارات فرعية؛ إدارة للفخار، وأخرى للحديد، وثالثة للخشب، ورابعة للصفيح. وأكمل قائلاً: إن «إدارة عموم الزير» على اتصال مع مختلف دوائر الدولة؛ مع وزارة الأشغال، والخزانة، والاقتصاد، والداخلية، والخارجية. وحين استفسر الوالي عن دور وزارة الخارجية، أجاب الوزير: من أجل المشاركة في المؤتمرات، لأن «إدارة عموم الزير» أصبح لها شهرة عالمية، ومديرها يحضر مؤتمرات في باريس ولندن ونيويورك! تساءل الوالي: وهل يوجد في الدول الأخرى إدارات لعموم الزير؟ أجاب الوزير: لا يا سيدنا، نحن نفتخر بتجربتنا الرائدة.

قرر الوالي زيارة موقع الزير ففوجئ بمبنى شاهق فخم مكتوب عليه «إدارة عموم الزير». دُهِش الوالي من جموع الداخلين والخارجين من المديرين والموظفين والعاملين، وسأل عن الزير فقيل له إنه قد نقل إلى الورشة لإصلاحه. رأى الوالي الحارس الذي كان قد عينه للعناية بالزير يكاد يموت من الجوع لأنه لم يتقاض مرتبه منذ أكثر من سنتين ونصف، بحجة أنه لا يحمل مؤهلاً عملياً، وقال له إنهم قد كذبوا عليه، وإن الزير ليس هنا منذ سنتين. طلب الوالي من الحارس أن يعود إلى القصر، ويشتري زيراً يضعه تحت ظل شجرة ليشرب الناس منه، وأصدر حكماً على الوزير بأن يدفع رواتب مدير عام وموظفي «إدارة عموم الزير» من ماله الخاص.

يقول البعض إن «إدارة عموم الزير» قد اختفت، ويقسم البعض أنهم قد رأوها في أكثر من مكان بأسماء مختلفة، ويؤكد البعض أنه لو لم تمت الوزّة لكان لديهم الآن مبنى شاهق فخم مكتوب عليه «إدارة عموم الوزّة».

* كاتب وإعلامي إماراتي

Email