دولة جاذبة للحياة

ت + ت - الحجم الطبيعي

ومازال الوباء يفيض علينا بما لديه في جعبته التي لا تظهر أمارات على قرب النضوب. ما يقرب من عامين مضيا من عمر الوباء جعلا الملايين منا خبراء في مجالات الاحتراز والاحتراس والوقاية. لكن العامين والثالث على الأبواب تعلمنا الدروس وتدفع الراغبين منا إلى الاستفادة والإفادة. وقائمة الفوائد كثيرة حيث اليقين بأهمية الـ«أون لاين» سواء كان عملاً أو تعليماً أو ترفيهاً أو معرفة أو تواصلاً أو ترابطاً أو ابتكاراً أو غيرها. وهناك كذلك النماذج أو paradigms الجديدة والمبتكرة الآخذة في الظهور أمامنا ولسان حالها يقول «أنا هنا في خدمتكم».

حياة ما بعد كوفيد 19 أو المواكبة له ولمتحوراته ستستدعي الكثير بين تأقلم وتعديل. ورغم أن العالم شهد عبر التاريخ عدداً من الأوبئة، إلا أن هذا الوباء ليس كغيره من حيث ما سيخلفه من تغيير للعديد من الأنظمة والقرارات وأساليب الحياة التي تعاملنا معها على مدار عقود باعتبارها تحصيل حاصل. ببساطة، أطاح كوفيد 19 بكل تحصيل حاصل عرفناه ومنحنا هذا الشعور بالأمان الذي ينجم عن الاستمرارية والاعتياد.

وقبل أيام قليلة، فاجأتنا الإمارات كعادتها بقرار جريء. صارت عطلة نهاية الأسبوع يومين ونصفاً (نصف يوم الجمعة والسبت والأحد)، وصارت أيام العمل أربعة أيام ونصفاً، وذلك بدءاً من العام المقبل، أي بعد أيام قليلة. كما شمل القرار توحيد موعد إقامة خطبة وصلاة الجمعة في كل أنحاء الإمارات طيلة أيام العام.

والحقيقة أن القرار ليس فقط في غاية الجرأة، لكنه أيضاً في غاية الواقعية والعملية والمنطقية. تقليل عدد ساعات العمل الأسبوعي لا يعني بأي حال من الأحوال تقليل الإنتاجبة، بل العكس هو الصحيح.

دراسة أجرتها جامعة ستانفورد تشير إلى أن أحد أكبر مميزات تقليل عدد ساعات العمل الأسبوعي هو إنها تجعل الموظفين «عمالاً أفضل». بمعنى آخر، وجدت الدراسة أن الموظفين والعمال ينتجون أو ينجزون قدراً أكبر من العمل حين يعملون ساعات أقل. الجزء الميداني من الدراسة أثبت أن معدل الإنتاج يهبط بسرعة ما أن تصل عدد ساعات العمل الأسبوعي إلى 50 ساعة. وهناك من الخبراء من يشير إلى أن 35 ساعة عمل أسبوعية هي الأفضل لرفع والإبقاء على معدلات الإنتاج مرتفعة.

هل هذا كلام جديد؟ لا، ليس جديداً بل معروفاً أو على الأقل مثبتاً منذ زمن عبر دراسات عدة. لكن الجديد هو أن تتخذ دولة قراراً تقره وتجعله منهج حياة وعمل، وهذا ما فعلته الإمارات.

ما فعلته الإمارات سيؤدي إلى زيادة الإنتاجية ورفع كفاءتها. لكنه سيصب أيضاً في صالح الإمارات باعتبارها رافداً حيوياً ومركزياً من روافد الاقتصاد العالمي. المتوقع أن يكون هناك قدر أوفر من الاندماج مع اقتصادات العالم وأسواقه وبورصاته ومؤسساته المصرفية وشركات التأمين والتجارة.

هذه الفوائد لن تكون بعيدة عن البشر، بل هم في القلب منها. فالمرونة الأعلى والقدرة الأوفر على التأقلم بالإضافة إلى ساعات العمل الأقل والراحة والترفيه الأكثر تعني أن العنصر البشري سيصبح أكثر كفاءة، ناهيك عن تعزيز سمة الجاذبية التي تتمتع بها الإمارات كدولة جاذبة للبشر للعمل والحياة.

والحقيقة أن هذه المعادلة بالغة الأهمية. حتى سنوات قليلة مضت، كان الاعتقاد السائد بين كثيرين أن الباحث عن تحسين مستوى دخله ومن ثم حياته أمامه أحد خيارين: إما البحث عن فرصة عمل في دولة غربية وهناك سيحظى بميزة الاستمتاع بالحياة، أو البحث عن فرصة عمل في دولة عربية وهناك سيحظى بميزة العمل دون الاستمتاع حيث الحياة عمل وادخار فقط لا غير.

لكن الوضع تغير. وبات معروفاً أن الإمارات تقدم الميزتين: العمل والحياة حيث نوعية الحياة وتفاصيلها الصغيرة قبل الكبيرة للمواطنين والمقيمين محل بحث وتحسين وتجويد وتعديل وتحديث دائماً. هذا النوع من الاهتمام المسبوق بدراسة عميقة والمصحوب بأدوات تطبيق منطقية وعملية وتضمن الاستمرارية بالإضافة إلى المرونة، لا سيما في زمن كالذي نعيش فيه حيث المرونة شرط من شروط البقاء على قيد الحياة.

وما دمنا ذكرنا المرونة، فإن قرار الإمارات التاريخي يتيح للجهات الاتحادية إمكانية تطبيق ساعات عمل مرنة بالإضافة إلى نظام العمل عن بعد يوم الجمعة، على أن تقر هذه الجهات آليات التنفيذ التي تراها مناسبة لظروفها.

النظام الجديد يضمن أسلوب حياة أفضل للعاملين وإنتاجاً أعلى يفيد الاقتصاد وأصحاب الأعمال وينقذ الأرواح. وبهذه المناسبة، فقد حذرت منظمة الصحة العالمية قبل أشهر من الآثار القاتلة لساعات العمل الطويلة. فـ 55 ساعة عمل أسبوعية تزيد احتمالات الإصابة بسكتة دماغية وأمراض القلب التاجية.

حسناً فعلت الإمارات الدولة الجاذبة للحياة.

* كاتبة صحافية مصرية

Email