تجديد استراتيجية مؤسسات الخطاب الديني

ت + ت - الحجم الطبيعي

تحمل مؤسسات الخطاب الديني على عاتقها أمانة توصيل رسالة الإسلام السمحة، وتعاليمه النقية الزكية، وإبراز قيمه السامية النبيلة، التي تحقق الخير والسعادة للناس، وتسمو بالقلوب والعقول، ليكون الإنسان إلى ربه أقرب، ولدينه أعرف، ولنفسه وأسرته ومجتمعه ووطنه أنفع.

إن أداء هذه الأمانة بالطريقة المثلى تقتضي من هذه المؤسسات في شتى أنحاء العالم الإسلامي وضع الاستراتيجيات التي تحقق الأهداف المرجوة، وتجديدها باستمرار بما يواكب متغيرات العصر وتحدياته.

فإن لكل زمان تحديات ولغة تخاطب وأدوات تواصل وأساليب تأثير ومواضيع ذات أولوية ونوازل طارئة، والاستراتيجية المثلى تراعي كل هذه العناصر، لتنتج خطاباً متوازناً مؤثراً معتدلاً يعايش الواقع ويصل إلى قلوب الناس ويلقى اهتمامهم ويعالج تساؤلاتهم واستفساراتهم.

والتطوير والتجديد ركيزة أساسية للرقي بالمؤسسات، بما في ذلك المؤسسات الدينية في العالم الإسلامي، التي تعنى ببيان تعاليم الإسلام السمحة الناصعة، التي ترتقي بالإنسان والأوطان.

ومن متطلبات تجديد استراتيجية الخطاب الديني النظرة المتخصصة الجامعة، المتحلية بالأفق الواسع الرحب، البعيدة عن التعصب الجمود والانفلات والتحزب والتطرف، التي تراعي مقاصد الشريعة السمحة، وقواعدها المنضبطة، وأحكامها السامية، وقيمها الوسطية المعتدلة التي جاءت رحمة للعالمين.

ومن الاستراتيجيات التي يحتاجها الخطاب الديني تعزيز قيم التدين المعتدل، الذي ينمي الوازع الديني، ويبني الضمير، ويرسخ قيم التكافل والتراحم والتلاحم والتكاتف، وسط مغريات كثيرة، وموجهات تكرس لسلبيات عدة كالأنانية والجفاء الروحي، في عصر الأنظمة الرقمية المفتوحة والقرية الكونية الصغيرة، التي تموج فيها ألوان من المؤثرات الفكرية والنفسية وغيرها.

مما يحتم على المؤسسات الدينية إعادة هيكلتها وأنظمتها ومخرجاتها بما يسهم في بناء الإنسان إيمانياً وأخلاقياً وسلوكياً، بخطاب إيماني راق يحرك المشاعر، ويتوغل إلى القلوب، ويجدد فيها قيم القرب من الله تعالى، فيكون صاحبه شعلة في الأمل والتفاؤل والإيجابية والعطاء والتسامح والرحمة والتكافل، سعيداً في نفسه، مسعداً لغيره، متحلياً بالكلام الطيب، والسلوك الحضاري الراقي، سواء كان هذا الخطاب على مستوى خطب الجمعة أو المواعظ والمحاضرات أو البرامج الدينية في التلفاز والإذاعة أو الأنشطة المتنوعة على مواقع التواصل أو غيرها.

كما أن ذلك يتطلب قياس مستوى التأثير وتقييم النتائج باستمرار، وتلمس الجوانب التي تحتاج إلى التطوير والارتقاء، سواء في نوعية المواضيع، أو أساليب الخطاب، أو قنوات الاتصال، أو على مستوى تأهيل الخطباء والوعاظ والمفتين، وتمكينهم من امتلاك أدوات التأثير الإيجابي في ممارستهم للخطاب الديني المعتدل بانضباط وحكمة.

كما تحتاج المؤسسات الدينية إلى تجديد استراتيجياتها الوقائية والعلاجية، فمن التحديات التي يواجهها الخطاب الديني في هذا العصر سيما السنوات العشر الأخيرة المفاهيم المنحرفة التي تروجها التنظيمات الإرهابية المتطرفة، واستغلالهم للمنتديات ومواقع التواصل الاجتماعي للترويج لها، وتغرير الشباب بها.

وكذلك الدعايات المضللة التي تروج لظاهرة الإسلاموفوبيا، وذلك يقتضي من المؤسسات الدينية أن تكون على وعي بهذا الاستقطاب الفكري، ومدى امتداد تأثيره في المحيط الذي تتواجد فيه، ليكون تفكيك هذه الشبهات وتفنيدها جزءاً من استراتيجيتها في تحصين المجتمع ومكافحة الغزو الفكري المتطرف الذي يهدده، ولا بد أن يكون هذا التفكيك والتصدي قائماً على أسس إقناعية وإعلامية تصل إلى أوسع جمهور بأنسب خطاب.

وإذا نظرنا إلى الواقع فإننا نجد أن من أهم ما تحتاجه مؤسسات الخطاب الديني مواكبة أدوات العصر وأساليب التأثير في ظل التقنيات الحديثة التي تتطور باستمرار.

وفي ظل ثورة التكنولوجيا التي وضعت الأجهزة الذكية من هواتف وغيرها في متناول كل يد، زاخرة بالتطبيقات الكثيرة والمحتويات المتنوعة من برامج ومقاطع مرئية ومسموعة ومكتوبة.

وهو ما يقتضي من المؤسسات الدينية تجديد استراتيجيات التواصل الرقمي مع الجمهور، وإنتاج المواد الجاذبة التي تجد لها مكانا مرموقا وسط زخم الخطابات التي تستهدف الجماهير، ابتداء من الفئات الصغيرة التي تعتبر من أكثر الفئات حاجة إلى الخطاب المناسب الجاذب في ظل التطبيقات والبرامج الكثيرة الموجهة لهم من ألعاب وأفلام ومسلسلات الأنمي وقصص مصورة ومقاطع قصيرة وقنوات متنوعة، ومرورا بفئات الشباب الذين لهم لغتهم واهتماماتهم وغيرهم من الفئات.

كل ذلك وغيره يؤكد لنا أن تجديد استراتيجية وهيكلة الخطاب الديني في المؤسسات المختصة ضرورة حتمية في ظل المتغيرات الكثيرة، ليسهم ذلك في نشر قيم الخير والحق والرحمة والسلام، ويغلق الطريق أمام الخطابات السلبية، وليصبح خطاباً جاذباً له حضوره البارز الإيجابي في واقع المجتمعات.

* كاتب إماراتي

 

Email