عُقْمُ الخطاب وخصوبة الفعل

ت + ت - الحجم الطبيعي

يعاني المشهد السياسي في ربوعنا من طغيان الجانب الخطابي، الذي انطلق في عدد من دولنا العربية مؤسساً للحلم، لينتهي مُجهِضاً لكل الآمال والأحلام.

وباستثناء دول قليلة اختارت معانقة قيم العمل والتفوق والإبداع والتطور، ونجحت في اختياراتها أيما نجاح، فإن غالبية دولنا ومجتمعاتنا غرقت في دهاليز الخطابات الجوفاء، وابتعدت مسافات ضوئية عن ثقافة العمل والنجاعة، وأغرقت بالتالي مواطنيها في الأوهام والكوابيس بدل الأحلام الجميلة والفعل الذي ينفع الناس.

وقد يجد البعض منا- وهُم على خطأ- بعض التبرير والتفسير لطغيان الجانب الخطابي والكلامي في سلوكنا باعتباره خطاً مميزاً لحضارتنا، وقد يرون فيه شكلاً من أشكال التمكن والإبداع، ولكن الواقع المُعاش لغالبية شعوبنا ودولنا يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الاقتصار على نهج الكلام أقفل من أمام شعوبنا ودولنا أبواب الفعل والعمل ومتعة التميز والتفوق والإبداع.

وينسى هؤلاء أن التفوق والتميز في اللغة والتعبير والخطابة هو من مكملات النجاح في التنمية، وفي تركيز مؤسسات الدولة المدنية الديمقراطية والتعددية، والتي تسعى إلى توفير عناصر الكرامة والحرية للمواطن والعزة والسُؤدد للوطن.

وإن ما يدعونا إلى إثارة هذه المسألة الآن هو معاينة حجم الانحراف في المسلكية السياسية لغالبية نخبنا السياسية، والذي قادها إلى الخروج عن سكة العمل والسقوط المدوي في دَرَك العُقم وتغليف كل هذا الفشل بالخطاب، الذي لا يُغني ولا يُسمن من جوع.

ويكبر اعتقادنا بأن هذا الانحراف المسلكي والسياسي هو الذي دفع البعض إلى حصر الصراع والنجاح والفشل في المجال الخطابي وحده باعتباره محور المنافسة ومجالها، ليصبح هذا الصراع في هذه المجتمعات كلاماً بكلام وبمنأى عن الفعل النافع.

النتيجة هي أن المجتمعات والدول التي سلكت هذه السبل تعطلت فيها تدريجياً ثقافة العمل والتميز والإبداع وكذلك انقطعت فيها العلاقة بين النخب والواقع، وبين النخب ومطامح وآمال وطلبات العامة.

ومناسبة هذا الكلام أننا نعيش في تونس ومنذ 2011 عملية تأبين مستمرة للفعل الذي يحقق بعض آمال وأحلام المواطن، وذلك بسبب نزوع النخبة السياسية والحزبية لانعدام الكفاءة والأفق وطغيان الانتهازية والصراع المرضي على السلطة والحكم، نزوعها إلى حصر نفسها في زاوية الكلام والتنافس الخطابي بعيداً عن أي فعل مطلوب لتحقيق حلم المجتمع في حياة أفضل.

وفِي الوقت الذي تعيش فيه تونس وضعاً اقتصادياً واجتماعياً صعباً جداً بالتوازي مع تعطل لغة الحوار بين أعلى هرم السلطة ومختلف الوسائط السياسية والمجتمعية.

في الوقت الذي تدحرجت فيه مكانة تونس كوجهة استثمارية مفضلة في أفريقيا، حيث كانت تحتل المرتبة الرابعة أفريقياً لتغيب تماماً من جدول الـ10 الأوائل.

في الوقت الذي تتداعى فيه كل المؤشرات الاقتصادية منذرة بالخطر الجسيم على مستقبل الدولة والمجتمع.

في هذا الوقت بالذات ينحصر الصراع في تونس حول رمزية تاريخ انطلاق «الثورة»، هل هو 17 ديسمبر 2010 أم 14 يناير 2011؟

إن تونس التي لفظت منوال تنمية لم يحقق كرامة الفرد وعزة الوطن، وهي انتفضت منذ أحداث الحوض المنجمي في 2008 وتواصلت انتفاضتها إلى سنة 2011.

وإن تونس التي قررت القطع مع عشرية الدمار، التي قادتها حركة النهضة الإخوانية، وهو قرار استجابت له الحركة التصحيحية لرئيس الجمهورية قيس سعيّد، والتي هي من منظورنا فعل أسس لحلم متجدد قبل أن يسلك هو الآخر المنحى الخطابي، الشيء الذي أحيا لدى الحركة الإخوانية حلم العودة إلى الحكم، فهي تجيد استغلال الفرص وبطء الفعل لدى منافسيها، وتتقن العمل تحت الأرض وفي الظلام.

إن تونس هذه تستحق أفضل مما هي عليه، ولكن قتامة المشهد في تونس وفي عدد من دولنا العربية لا ينبغي له أن يُنسينا وجود نقاط ضوء مهمة في محيطنا العربي، فدولة الإمارات العربية المتحدة التي تحيي هذه الأيام ذكرى خمسينية توحيدها هي مثال ناجح على طغيان ثقافة العمل، الذي فتح أمامها أبواب التميز والإبداع، وهي لذلك دخلت مرحلة الرفاه المجتمعي، الذي حرك الحاجة إلى انتهاج خطاب سياسي واتصالي يواكب نهضة فعلية متوازنة وشاملة وخالقة للثروة بعيدة كل البعد عن منطق «الثورة» و«الثوار» العقيم، الذي قاد ويقود إلى المهالك.

وقد يحق لنا التساؤل حول أسباب النفور بين الفعل والقول في محيطنا العربي.

إن طريق النجاح واحد وهو العمل ومزيد العمل، وإن ضمانة النجاح هي تجذر المسؤول في تربته الوطنية، وإن لنا في من انتهج سبيل العمل أسوة حسنة لو كانوا يعلمون.

 

* كاتب تونسي

Email