مع التطور التكنولوجي وثورة التقنيات التي اجتاحات العالم وزيادة وتيرة ذلك تجدَّدت الحاجة إلى استثمار هذا الفضاء الافتراضي في تعزيز الخطابات الإيجابية.

ومن أهمها الخطاب الديني المعتدل، الذي يعزز الفهم الصحيح للدين، الموافق لما جاء في الكتاب والسنة وما عليه الصحابة والتابعون والعلماء الربانيون، الذين شيَّدوا صروح الوسطية والاعتدال، وفنَّدوا شبهات التطرف والإرهاب، وعزَّزوا قيم التعايش وحسن معاملة الآخر، وجمعوا إلى أصالة الخطاب كما قال الإمام مالك رحمه الله: «لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها» حداثة الأساليب والوسائل والتقنيات.

لقد أصبحت هذه الأدوات الذكية اليوم التي تتجاوز حدود الزمان والمكان وسيلة من وسائل التواصل وتلقي المعلومات، وخصوصاً لدى جيل الشباب، الذين أصبحوا يتلقون المعلومات في كل المجالات من خلال الأنظمة الرقمية بأنواعها، وأصبح ارتباطهم بالواقع الافتراضي ارتباطاً قوياً، مما يحتم على أصحاب الخطاب الديني المعتدل مواكبة ذلك، والإسهام الفاعل بتقديم الخطاب الشرعي السليم عبر هذه التقنيات الرقمية.

وتتأكد العناية برقمنة الخطاب الديني المعتدل في ظل وجود منصات رقمية كثيرة، تستهوي الشباب، وتؤثر في وعيهم وثقافاتهم وقيمهم، سواء بشكل إيجابي أم سلبي، وبعضها تلعب على وتر الغرائز والتحرر من القيود، كما يتأكد ذلك في ظل اعتلاء كثير من التيارات السلبية أسوار الخطاب الديني في العالم الرقمي، والعبث بساحته، وتوظيف وسائل عدة للتأثير على الشباب، بعضها شبهات فكرية، وبعضها مؤثرات نفسية.

والناظر اليوم في الساحة الرقمية يجد أن نسبة الخطاب الديني فيها قليلة، وكثير من ذلك خطابات دينية سلبية، ابتداءً مما تروجه التيارات الحزبية المتاجرة بالدين، ومروراً بالتنظيمات المتطرفة وصولاً إلى «القاعدة» و«داعش».

إضافة إلى تيارات الانسلاخ وتبديد معالم الدين، وتشويه نصوصه الشرعية، تحت شعارات براقة، توقع الشباب في دهاليز العقلنة الفردية المفرطة، التي تتجاوز حدود القواعد والضوابط والأصول وما عليه العلماء الراسخون في فهم الدين.

فيعتمد الشاب على تفكيره القاصر، أو يتأثر بأجندات خارجية، تسعى لتوظيفه لضرب وطنه وثوابته وأنظمته وقوانينه، وتغذِّيه بأفكار يثور بها على القيم والأوطان، فضلاً عن الخطابات الفكرية والإعلامية والسياسية وغيرها، والتي تسعى للتأثير على الأجيال، وبعضها خطابات موجهة ذات أبعاد تستهدف الدول والمجتمعات.

إن هذه التحديات كلها تضع أمام عاتق أصحاب الخطاب الديني المعتدل مسؤولية كبرى في ملء الفراغ، ومزاحمة الخطابات السلبية في العالم الرقمي، بتقديم الخطاب الديني الصحيح السمح المعتدل في أبهى حلة، وبالأخص لفئة الشباب.

وذلك بتوظيف أحسن التعابير والأساليب في مخاطبتهم، واتباع الأسلوب الحكيم الذي يراعي ثقافاتهم ونفسياتهم واهتماماتهم ومشكلاتهم وتساؤلاتهم، ليكون الخطاب مؤثراً يلامس عقولهم وقلوبهم، ويقدم لهم المحتوى الشرعي الصحيح بالعبارات المثلى والتقنيات العصرية القريبة إليهم، كما قال الله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}.

كما تتطلب الحكمة وخصوصاً في العالم الرقمي تقديم خطابات شرعية علاجية، مدعمة بالأدلة والبراهين والحجج المقنعة، ذات قوة وفاعلية في تفكيك الخطابات السلبية، وبالأخص ما يتعلق بالانحراف الفكري، سواء أكان تطرفاً وإرهاباً أم تسيُّباً وتبديداً، ومن صور ذلك بيان التصورات الصحيحة حول القضايا والمصطلحات ذات الصلة بالخطاب الديني.

والتي تتجاذبها الرؤى والأفهام، سواء أكانت مصطلحات قديمة أم حادثة، كمصطلح الجهاد والولاء والبراء والإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخوة الإنسانية وتجديد الخطاب الديني والتسامح وغيرها من المصلحات الكثيرة، والتي تختلف الأطروحات حولها بحسب اختلاف مشارب أصحابها، فالجهاد لا يعني الإرهاب والتطرف.

والولاء والبراء لا يعني الاعتداء على غير المسلمين وبخسهم حقوقهم، وتجديد الخطاب الديني لا يعني المساس بالنصوص القطعية والتعدي على المسلَّمات الشرعية، والأخوة الإنسانية لا تعني هدم الهوية الدينية والوطنية، والتسامح لا يعني التنازل أو التساهل، والإصلاح لا يعني التحزب والتظاهر والثورة ونزع الولاء من الأوطان، وهكذا في سائر المصطلحات التي يوظفها هذا التيار أو ذاك لتحقيق أجنداته الخاصة والتشويش على عقول الشباب.

إن رقمنة الخطاب الديني قضية تمس الحاجة إليها، وذلك لزيادة نسبة الخطاب المعتدل في العالم الرقمي، مع تجديد الأساليب، وتنويع وسائل العرض، لتقديم أفضل محتوى ديني معتدل بأنسب أسلوب وأكثره تأثيراً.

* كاتب إماراتي