دعه يفكر.. دعه يقول.. دعه يمر.. دعه يعمل!

ت + ت - الحجم الطبيعي

في نهاية حقبة التسعينيات، اشتهرت أغنية «الحلم العربي» لما تضمّنته من معانٍ تؤكّد الأمل في مستقبل عربي أفضل، مستقبل يستند إلى الهُوية العربية المشتركة ويقوم على التضامن والتكامل بين الشعوب والأوطان العربية. لكن ما حدث في المنطقة العربية منذ الغزو الأمريكي للعراق، وما تلاه من فوضى تداعيات ما سمي بـ«الربيع العربي» والتدخّل الأجنبي وظهور جماعات «داعش»، ذلك كلّه حوّل «الحلم العربي» إلى كابوس بغيض ما زالت الأمّة العربية تعيشه حتى الآن.

نعم، هناك تردّ كبير جارٍ حالياً في بلاد العرب، والواقع العربي الراهن ينذر بأسوأ الاحتمالات والمخاطر. وأحسب أنّ المسؤولية عن تردّي هذا الواقع تشمل المجتمعات العربية بكلّ ما فيها. وحتى تتحدّد المسؤولية أكثر، فإنّ الأمر ليس «مؤامرات خارجية» أو «مخطّطات أجنبية» فقط، رغم خطورة هذه المخطّطات وتأثيراتها السلبية المتواصلة، لكن موقع العطب الأساس هو في «الداخل» العربي.

وقد يختلف العرب في تحديد طبيعة المشكلة وجذورها، وقد يختلفون في صورة الحل المنشود، لكنّهم يجمعون في الحدّ الأدنى على المخاطر المحدِقة بمصير المستقبل العربي.

فهل يمكن أن تكون الأعوام المقبلة سنوات خير على العرب وأوطانهم؟ وهل يمكن تحقيق مستقبلٍ يكون العرب فيه أفضل حالاً مما هم عليه الآن؟!

إنّ الأرض البور قد تصطلح إذا كانت هناك إرادة إنسانية فاعلة ومهيّأة لعمل الإصلاح، لكن تكبر المعضلة حينما لا تكون الأرض بوراً، بل أرض خيرات وثروات، بينما بعض قيادات الشعب هي البور!

إنّ للأمّة العربية حقوقاً على أبنائها المقيمين والمهاجرين، والتحدّيات التي يواجهها العرب الآن وفي المستقبل تستدعي هذا الحدّ الأدنى لوقف الانحدار العربي الشامل:

أولاً: على الحكومات العربية واجب إقرار حقّ المواطن «السائل» و«المحروم».. المواطن «السائل» عن حاضره وعن واقعه.. «السائل» عن مستقبله والمستقبل المجهول لأولاده.. «السائل» عن أسباب الانهيار والتصدّع في مجتمعه وفي وطنه.. «السائل» عن هويّته العربية المهمّشة وعن ثقافته الحضارية المهدّدة.. «السائل» عن لقمة عيشه وعن الفساد المهيمن في دولته.. وعن غياب العدالة في توزيع ثروات وطنه..

أيضاً، هذا المواطن «المحروم» من حقّه في المشاركة.. ومن حقّه في التعبير.. ومن حقّه في التنقّل والعيش بكرامة دون خوفٍ أو جوعٍ أو تشرّد.

هذه الحقوق للمواطن العربي «السائل» أو «المحروم»، تتطلّب من الحكومات العربية أن تقرّر فيما بينها (على غرار ما فعلته حكومات أوروبا الغربية، رغم ما بينها من اختلافات وتاريخ حافل بالصراعات) الحرّيات والحقوق الآتية لأبناء الدول العربية:

(1) حرّية التفكير والمعتقد.

(2) حرّية القول والتعبير.

(3) حرّية المرور والتنقّل بين الدول العربية.

(4) حرّية العمل والاستثمار لأبناء الدول العربية.

أي تطوير شعار مُنظّر الفكر الرأسمالي آدم سميث: «دعه يمرّ.. دعه يعمل»، إلى شعار عربي رباعي يقوم على: «دعه يفكّر.. دعه يقول.. دعه يمرّ.. دعه يعمل» لعموم مواطني الدول العربية. وفي تنفيذ ذلك الشعار، يحافظ العرب على ثرواتهم المالية والبشرية، وتستثمر الدول العربية طاقتها الفكرية والمادية على أرضها، فلا نعيش نشوة الاعتزاز الوطني والقومي كلّما نجح طبيب أو عالم أو كاتب أو رجل أعمال ومال، على أرض غير العرب ولصالح تقدّم مجتمعاتٍ أخرى.

إنّ التحدّيات الخطيرة التي تواجه العرب الآن تتطلّب في الحدّ الأدنى هذه الحرّيات للمواطنين العرب، والتي تستوجب في جزءٍ منها حداً أدنى من التضامن العربي على أسس جديدة، تُحترَم فيه حدود وسيادة دول الجامعة العربية وحقّ كل دولة فيها باختيار النظام السياسي الملائم لها، وبما لا يتناقض مع الحرّيات الأربع الواردة أعلاه.

ثانياً، على المعارضات العربية إقرار مبدأ نبذ العنف في عملها السياسي وفي أساليب حراكها من أجل التغيير، مهما تعرّضت لعنف سلطوي، وعليها اتّباع الدعوة السلمية القائمة على الإقناع الحر، والتعامل بالمتاح من أساليب العمل السياسي، ثمّ التمييز الحازم بين معارضة الحكومات وبين تهديم الكيانات، حيث تخلط عدّة قوى عربية بين صراعها مع السلطات، وبين تحطيمها، بوعي منها أو بغير وعي، عناصر وحدة المجتمع ومقوّمات الدولة والوطن. ولعلّ من المهمّ أيضاً أن تدرك المعارضات العربية أنّ الإصلاح المنشود هو مطلوبٌ لها أولاً، فالأعطاب والعلل هي في كل المجتمع، لذلك فإنّ الإصلاح المنشود هو للمجتمع كلّه.

ومن يسعى للإصلاح في مجال فكري، فإنّه متمّمٌ في عمله لمن يسعى إليه في مجال سياسي أو إداري أو علمي أو اقتصادي، فتكامل وسائل الإصلاح ومنطلقاته هو الذي يؤدّي إلى تكامل أهدافه العامّة الشاملة المنشودة. وحيثما يحصل الإصلاح والتغيير السليم نحو الأفضل، فإنّه يحقّق دوره بالتكامل مع ما يحصل من أطراف أخرى تعمل من أجل الإصلاح الشامل للمجتمع العربي.

وإضافةً إلى أهمّية سلامة الفكر والأساليب والقيادات، هناك حاجة إلى التنسيق والتعاون الإيجابي بين قوى الإصلاح عموماً في البلاد العربية.

ثالثاً، لقد توفّرت للمهاجرين العرب المقيمين الآن في دول الغرب فرصة العيش المشترك فيما بينهم بغضّ النظر عن خصوصياتهم الوطنية، وبالتالي إمكانية بناء النموذج المطلوب لحالة التفاعل العربي في أكثر من مجال. أيضاً أتاحت لهم الإقامة في الغرب فرص الاحتكاك مع تجارب ديمقراطية متعدّدة من الممكن الاستفادة منها عربياً في الإطارين الفردي والاجتماعي، لذلك فإنّ للمهاجرين العرب خصوصية مميّزة في عملية الإصلاح العربي المنشود، وفي بناء مستقبل عربي أفضل، فهم أشبه بنُجاةٍ من سفينة مهدّدة بالغرق، وقد أدركوا شاطئ البر والأمان هنا أو هناك، لكنّهم تركوا خلفهم في أوطانهم أهلاً وأقارب وأصدقاء، تتخبّطهم كلَّ يوم الأمواج العاتية، لذلك فهو واجب على من استطاع الهجرة الانضمام لطاقم المصلحين الموجودين على أرض أوطانهم.

إنّ مأساة الأمّة تكبر يوماً بعد يوم، ليس فقط بسبب ما يحدث فيها، بل أيضاً نتيجة ما يخرج منها من كفاءات وأموال وأدمغة، فالتكامل الحاصل بين الولايات الخمسين الأمريكية يجعل صاحب الكفاءة أو رجل الأعمال الأمريكي يهاجر من ولاية، إذا اضطربت اجتماعياً أو أمنياً، إلى ولاية أمريكية أخرى، كذلك الحال الآن بين دول الاتحاد الأوروبي، فهي أممٌ تحتفظ بأدمغتها وأموالها وبشبابها وخبراتها، فلا تنضب ولا تعجز ولا تنتحر، بينما الأرض العربية تجفّ وتنضب «كفائياً» ومالياً قبل أن تجفّ وتنضب المياه وآبار النفط فيها!.

فما أحوج هذه الأمّة إلى «عمل نهضوي عربي شامل» وإلى من يتمسّكون بحقّهم في الحلم بمستقبل عربي أفضل ويقومون بواجبهم في تحويل هذا الحلم إلى حقيقةٍ وواقع.

* مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن

Email