راشد بن سعيد .. جُرأةٌ وبصيرةٌ وإقدام

بإيقاعٍ مُنظّمٍ مدروس يواصل صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبيّ، رعاه الله، نشر مجموعة فريدة من الومضات تحت وسم «ومضات قيادية» يستلهم فيها تجربته الذاتية في الحكم، ويستذكر بكثير من الوفاء والامتنان سيرة الكبار الذين تعلّم على أيديهم فنون الإدارة والقيادة ولا سيّما والده طيب الذكرى الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، رحمه الله، الرجل الذي تميّز بالحكمة الواسعة، والبصيرة النافذة، والعزيمة الماضية، فهو رجل القرارات المدروسة، وقائد مقدام ينطلق من خلال الثقة بالمستقبل، ويمتلك روحاً متفردة من التفاؤل والثقة بالنفس، والإحساس الدائم بالأمل المؤسس على معطيات حقيقية ربما لا تظهر لغيره ممن يعملون معه في مسيرته الشاقة في بناء دبيّ كواحدة من أهم مدن الخليج العربي بناءً مؤسساً على بنية تحتية قادرة على الديمومة والتطور والدخول في قلب المنافسة العالمية، وهو ما نلمسه واقعاً متحققاً في مسيرة هذه المدينة الزاهرة النشيطة التي غدت واحدة من أهم الوجهات العالمية خلال فترة لا تزيد على نصف قرن هو عمر هذه الدولة السعيدة.

واستذكاراً للمسيرة الثمينة للشيخ راشد، رحمه الله، واستلهاماً لنظرته الثاقبة في اتخاذ القرارات الصعبة، نشر صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد على حسابه في إنستغرام ومضة قيادية تحدث فيها عن واحد من أهمّ القرارات المبكّرة التي اتخذها الشيخ راشد، رحمه الله، في مسيرته هو بناء ميناء جبل علي في ظروف لم تكن مشجّعة على اتخاذ هذا القرار، بل كان جميع من أحاط به إلى الاعتراض أقرب منهم إلى الموافقة، وكانت هواجس الحذر والخوف من الإخفاق هي المسيطرة على النخبة العاملة في تطوير دبيّ، لكنّ الشيخ راشد كان هو الأبعد مدى في نظرته للمستقبل البعيد لدبيّ الطالعة مثل كوكب دُرّيّ في سماء العمل والإنجاز، فلم يتردد في اتخاذ القرار الذي أصبح فيما بعد واحداً من أهم إنجازاته في مسيرته الراشدة لحكم دبيّ، وهو ما سيقصّه علينا صاحب السموّ في هذه الومضة الخاطفة، لكنه سبق له أن ألقى ضوءاً ساطعاً على هذه اللحظة التاريخية من قرارات الشيخ راشد حين كتب فصلاً رائعاً بعنوان «ضفاف الخور» في كتابه «رؤيتي: التحديات في سباق التميز»، توقف فيه عند التفاصيل الثرية لهذا الحدث الكبير في مسيرة دبي التنموية على عهد الشيخ راشد بن سعيد، رحمه الله، وها هو صاحب السموّ يكثّف تلك اللحظات في هذه الومضة المقتصدة لكي ينقل لنا روح ذلك الحدث، وفلسفته ومدى دلالته على شخصية الشيخ راشد، رحمه الله.

إنّ من أهمّ ما تمتاز به ومضات صاحب السمو هو قدرة المادة التصويرية المرفقة على تعزيز محتوى الومضة، حيث تُسهم الصورة بجميع تفاصيلها في جذب انتباه المتلقي، وتساعده في تذوق المحتوى البديع للومضات، وهو ما نلاحظه في هذه الومضة القيادية التي ألقاها صاحب السمو باللغة الإنجليزية مع ترجمة فورية لمحتواها، حيث افتتحها بقوله: «ميناء راشد كان كبيراً بالنسبة لاحتياجات دبيّ في الماضي، لكنّ والدي قرّر بناء ميناء أكبر في جبل عليّ».

إنّ هذه المقدمة تكشف عن طبيعة تفكير الشيخ راشد، رحمه الله، فميناء دبيّ لم يكن كافياً فحسب لحركة الشحن الخاصة بدبيّ بل كان فوق حاجتها، وهذا يعني أن اتخاذ قرار بإنشاء ميناء جديد ليس وارداً في الحسابات العادية لمديري شؤون الإمارة في تلك المرحلة، لكن الشيخ راشد كان له رأي آخر لا سيّما بعد أن كان قد قام بتوسيع الخور وأصبح ميناء راشد قادراً على استيعاب حركة السفن، حيث ارتفع عدد الأرصفة عام 1978م، لكن الشيخ راشد وبحسب عبارة صاحب السمو فاجأ الجميع حين قرّر بناء ميناء جبل علي الذي كان واحداً من أهم إنجازات نهاية السبعينات، وقد عبّر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد عن هذه اللحظة التاريخية الفارقة في مسيرة دبي بقوله: «واعتبر عام 1979 نقطة مضيئة في تاريخ دبي، إذ استكملت فيه ثلاثة من أهم المشاريع التي عرفتها الإمارة، الأول: ميناء جبل علي، والثاني: مصهر الألمنيوم... والثالث: مركز دبيّ التجاري، وبهذا قدّم والدي لشعب دبيّ بنية تحتية فريدة وقاعدة صناعية أولية حققت نجاحاً فوريّاً وجعلتها مركزاً تجاريّاً رئيساً على المستوى الإقليمي».

ويتابع صاحب السموّ إضاءة هذه اللحظة التاريخية الفارقة في مسيرة دبي التنموية بقوله: «كان هناك تباين في حركة السفن، أصدقاء والدي نصحوا بعدم تنفيذ المشروع، وأخبروني أن أبلغه رأيهم، فلدينا 30 رصيفاً في ميناء راشد، و30 رصيفاً في جبل علي»، في هذا الجزء من الومضة يكشف صاحب السموّ عن المعطيات الميدانية للحدث على أرض الواقع، فهناك تباين في حركة السفن، وهذا يعني عدم ضمانة تدفق حركة الشحن، وهناك تردد من الفرق العاملة من أصدقاء الشيخ راشد بن سعيد، رحمه الله، وينصحون بعدم تنفيذ المشروع لعدم وضوح الجدوى الاقتصادية في تلك المرحلة تحديداً، ولضمان توصيل النصيحة طلبوا من صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد إبلاغ والده بموقفهم ثقة منهم بالمكانة الفريدة لصاحب السمو في قلب والده، ولعمق العلاقة التي تجمع بينهما، فما كان من صاحب السمو إلا أن اختار الوقت المناسب لإبداء رأي الأصدقاء: «أخبرته بالأمر، لكنه لم يجبني في حينها، وفي طريق العودة كنت أقود السيارة بوالدي، ردّ عليّ حينها: دبيّ تحتاج هذا المشروع وسيتطور مستقبلاً».

بهذه الحكمة الحصيفة، وبعد طول نظر وتأمل ودون أدنى تسرّع ردّ الشيخ راشد على موضوع الميناء، ولم يزد كلامه على بضع كلمات معدودات حين قرّر أنّ دبي محتاجة لهذا المشروع الذي سيكون له أعظم الأثر في تطورها المستقبلي، بمعنى أنّه لم ينظر للمشروع ضمن معطيات الواقع الحاضر، ولكنه ببصيرته الثاقبة استشرف مستقبل هذه المدينة التي تتحرك بنشاط ملحوظ، فقدّر لها هذا الأفق البعيد الذي أصبح اليوم علامة على عمق بصيرة ذلك المؤسس الباني، وجرأته في اتخاذ القرار ضمن ظروف قد لا تكون واضحة المعالم لغيره، رحمه الله.

«كان لدى راشد رؤية ثاقبة حينها، لكن لو بدأت التشكيك في نفسك فستبقى تُراوح في مكانك ولن تتطور»، وبهذه العبارة الرائعة ختم صاحب السمو هذه الومضة البديعة، حيث أشاد بالرؤية الثاقبة لوالده، رحمه الله، والذي كان سابقاً لزمانه في التخطيط، وقادراً على اتخاذ القرار الجريء في الوقت الصعب، ليكون ذلك درساً عميقاً لكلّ من لا يجد في نفسه الإحساس بالثقة، وتسيطر عليه مشاعر الشك بقدراته، فهذا النمط من الناس لن يكون قادراً على التقدم خطوة واحدة، وسيكون قدره الوحيد هو المراوحة في المكان الذي وضعته فيه الظروف دون أن يغادره ولو خطوة واحدة، وحسبك بهذا دليلاً على العجز والفشل وضعف الإرادة الإنسانية.

الأكثر مشاركة