المؤسسات والاستقرار السياسي

ت + ت - الحجم الطبيعي

من أهم جوانب التنمية في كثير من البلدان هو قضية المأسسة. وتعاني البلدان، خصوصاً الأقل نمواً، من ظاهرة وهن وتخلف مؤسساتها الوطنية. هناك اهتمام كبير بقضية التحديث والتنمية الاقتصادية وليس هناك جهد مماثل في القضية المصيرية المتعلقة بالتنمية السياسية.

وقد مرت شعوب ما بعد الاستعمار في أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا بتجربة تحديث سريعة حرقت مراحل في مسارها التنموي. فأنشأت المدارس والجامعات والمستشفيات وشيّدت المصانع وأدخلت الأساليب الحديثة في الزراعة وأقامت البنى التحتية لدعم عملية التنمية الاقتصادية والتحديث بوجه عام.

ورغم خطوات التحديث التي خطتها كثير من الدول حديثة الاستقلال إلا أنها أصبحت عصية على الاستقرار السياسي. وشهدت دول كثيرة اضطرابات وتغيرات سياسية بل وانقلابات في نظام الحكم خارج النظم والأطر الدستورية. والسبب يعود إلى ضعف واهتراء المؤسسات الوطنية سواء أكانت سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية.

والمؤسسة هي نمط السلوك المنتظم والمتكرر. ولا يعني بالضرورة الأثر المادي للمؤسسة. ولا تعني بالتالي مباني ومكاتب فحسب ولكن ممارسة منتظمة ومتكررة. فمؤسسة الزواج لا تشير إلى التواجد المادي للزوج والزوجة ولكن نمط التفاعل بين الزوجين. وكذلك كثير من السلوكيات المتمأسسة في المجتمع والدولة.

فانعدام أو وهن المؤسسات عموماً والمؤسسات السياسية خصوصاً تؤدي إلى اختلال في موازين النظام السياسي، والذي ينتج عنه حالة سياسية غير مستقرة أو الأسوأ تداعي النظام برمته. وحالة لبنان شاهدة على هذه الظاهرة. فانعدام احتكار الدولة لوسائل الأمن الشرعية نتج عنه احتراب أهلي بين مكونات اجتماعية - سياسية.

ولكن ما هو دور المؤسسات الوطنية في بلد مثل لبنان لضبط إيقاع المجتمع والدولة وتفاعل المكونات الاجتماعية داخله. يبدو أن هذه المؤسسات سواء أكانت سياسية أم اقتصادية أم قانونية تعاني من درجة كبيرة من التسيس. ولا تعمل بشكل مستقل عن اللاعبين السياسيين والتشكيلات الاجتماعية.

فلا تستطيع هذه المؤسسات أن تلعب دور الوسائط لتجسير الهوة بين الفرقاء لانعدام استقلاليتها. ولا تستطيع أن توفق بين المصالح الضيقة والمصالح العامة لصون المصلحة العليا وحماية الدولة والمجتمع من انهيار محتوم.

فعلى سبيل المثال حين حدث الشرخ الكبير عقب الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة وقامت مجموعة بالهجوم على المؤسسة التشريعية لمنع المصادقة على تولي جو بايدن الحكم، استطاعت المؤسسات السياسية والأمنية لعب دورها المنوط في منع انزلاق البلاد إلى المجهول. ولولا متانة المؤسسات في الولايات المتحدة لكانت هناك عواقب غير محمودة.

وشهدت بلدان عدة حوادث مماثلة أودت بالنظام السياسي كلياً في أتون حروب لا تزال مستعرة بسبب انعدام المؤسسات وضعفها. والصومال لا يزال يئن تحت حرب أهلية تخطت العقدين من الزمن. ولا يستطيع النظام السياسي ومؤسساته إيجاد مخرج يصون البلاد والعباد من أهوال الأزمات التي ألمت به. فالشعور الوطني استبدل بهويات ضيقة وقاتلة، والمؤسسات الوطنية استحوذت عليها العشائر منذ أمد، واستبيحت البلاد اقتصادياً من قبل جماعات ذات توجهات ومصالح ضيقة.

وشهدنا عدم استطاعة المؤسسات في العراق لعب دور للتحول من النظام السياسي ذي الحزب الواحد بزمن صدام حسين إلى نظام تعددي. وبسبب أن المؤسسات لم تواكب التغيرات بدأت الاضطرابات تنخر في المجتمع العراقي. ومما زاد الطين بلة أن النظام الشمولي البائد لم يسمح بتطور المجتمع المدني مما أدى إلى استفحال الطائفية بديلاً عن الأجهزة القمعية، والتي أبقت الغطاء على فسيفسائيات المجتمع العراقي مكبوتة لفترة غير قصيرة. وقد أخطأت القوات الغازية بتعزيز الطائفية عبر المحاصصة ظناً منها أنها تعزز العملية الديمقراطية والتعددية السياسية.

ليبيا حالة فريدة في تطور المؤسسات والتي شهدت بنائها في العصر الملكي، ولكن انقلاب سبتمبر 1969 على يد ضابط صغير معمر القذافي غيّر تطور المؤسسات إلى مسار فريد لا يخلو من الغرابة. وقد أراد الزعيم الراحل أن يكوّن نظاماً سياسياً تخضع فيه المؤسسات إلى إرادة الجماهير بدلاً من أن تنظم المؤسسات تحولات المجتمع إلى المثال الذي أنشده قائد الثورة. فلا جماهير حكمت ولا مؤسسات بقت. وأصبحت الدولة والمجتمع في مهب الريح تتحكم فيها إرادة فرد لا غير؛ بل أن حالة اللا مؤسساتية ساعدت على سيطرة الزعيم على كل مفاصل الحياة.

والسودان وتونس تجربتان أخيرتان في هذا السياق والتي لا تستطيع المؤسسات الوطنية ضبط الانتقال السلس للسلطة بعد عقود من الحكم الفردي للبشير وبن علي. فشخصنة المجال العام لها ثمن باهظ يدفعه أجيال. والضمان الوحيد للاستمرارية والاستقرار هو البناء الجاد للمؤسسات الوطنية لتتماشى مع التغيرات في المجتمع. والمؤسسات التي قامت إبان الاستقلال لا تصلح بالضرورة بعد مرور عقود على تأسيسها إذا ما أريد لها الفاعلية، وإذا ما أريد لها التكيف مع المستجدات. والوصول إلى ذلك كما قال صاحب المعرة أيا دارها بالخَيْفِ إنّ مزارَها *** قريبٌ، ولكن دون ذلك أهوالُ.

* كاتب وأكاديمي

Email