الحقوق البيئية واقع عربي

ت + ت - الحجم الطبيعي

حين تفرض البيئة واستدامتها، والمناخ وتغيراته، والطاقة وأنواعها، والاقتصاد الأخضر، نفسها على اهتمام المواطن والمسؤول العربي، فإن هذا يعني أن الأمر ليس رفاهية. سنوات طويلة مضت وملايين المواطنين العرب حبيسي مفهوم خادع، ألا وهو أن «البيئة ليست قضيتنا، إنما هي قضية الغرب». وعلى الرغم من أن الغرب ودول العالم الأول هي المسؤول الرئيسي عن ما يكابده الكوكب حالياً من مخاطر بيئية جمة، إلا أن العرب قادمون.

عقود طويلة وما كان يعرف بـ«الدول الصناعية الكبرى» تتصدر قائمة أكثر دول العالم تلويثاً للبيئة، وهو التلوث الذي ساهم بقدر كبير فيما نعانيه اليوم من تغير مناخي يتجلى في احتباس حراري وما ينجم عنه من كوارث «طبيعية» (وإن كانت هي في الأصل من صنع أنشطة الإنسان غير المسؤولة) مثل الجفاف والفيضانات والأعاصير وغيرها، وهو ما يتسبب بدوره في خسائر بشرية ومادية فادحة.

فداحة الوضع البيئي تغيرت ملامحها بخطوة ذكية في مظهرها بالغة الخبث في حقيقة أمرها، وذلك بتصدير الصناعات الأكثر تلويثاً للبيئة إلى الدول ذات الدخول المتدنية والمتوسطة. ويقول خبير الجغرافيا البيئية الدكتور حمدي هاشم في مقال له إنه «لولا تبني الدول الغنية سياسة تهجير الصناعات القذرة أي شديدة الضرر للبيئة، وذلك بامتلاك ملاجئ للتلوث تستقبل هذا النمط من الصناعات لتستفيد من فرق الكلفة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية، مع تعالي هاجس الاهتمام بالبيئة والتطور التقني الفائق للتكنولوجيات النظيفة ورصد عناصر التلوث لأدق مستوى ووصول جماعات الضغط السياسي إلى مراميها في دول الشمال الغنية، لما عادت الحياة إلى الأنهار الكبرى في شمال أوروبا بعد عقود مظلمة طغى فيها التلوث الصناعي السام».

لكن سمية التلوث لا تعترف بحدود. وكأن تصدير أو تهجير هذه الصناعات للجانب الآخر من العالم لم يكن كافياً، فقد ظهرت صرعة تحويل أطنان من القمامة الأوروبية، والمحتوية على البلاستيك غير المعالج، إلى عدد من الدول النامية وكأنها مكباً للنفايات.

لكن لا مجال للحديث عن الحظ أو الاعتماد عليه ليحل ما نتعرض له جميعاً – وإن كان بدرجات متفاوتة – من آثار بيئية بالغة الخطورة فاقمها الوباء المهيمن على العالم. وقبل أشهر قليلة، أصدر كل من «برنامج الأمم المتحدة للبيئة» و«مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان» ورقة مهمة عنوانها «حقوق الإنسان والبيئة وجائحة كوفيد 19» حملت عنواناً فرعياً هو «حقوق الإنسان في الاستجابة». أبرز الرسائل كانت ضرورة إعمال الحق في بيئة صحية، حيث التدهور البيئي وفقدان التنوع البيولوجي يهيئان الظروف لزيادة الأمراض المنقولة من الحيوان إلى الإنسان ما يؤدي إلى انتشار الأوبئة، ومراجعة تفاعلات البشر مع الطبيعة والحياة البرية لا سيما أن 60 في المئة من الأمراض المعدية و75 في المئة من الأمراض المعدية الناشئة في البشر، بما فيها «كوفيد 19» حيوانية المصدر، وحماية الأشخاص الذين يعانون الفقر والتمييز لا سيما وأنهم الأكثر تضرراً من آثار الوباء، بالإضافة إلى ضمان المشاركة الهادفة والمستنيرة.

ومن دواعي السرور والاطمئنان أن تأتي دول مثل مصر والإمارات ضمن دول العالم التي تتخذ خطوات فعلية على صعيد المشاركة الهادفة والمستنيرة في قضايا البيئة التي باتت ضرورة ملحة.

دور ريادي رائع تطرحه الإمارات في مجال العمل البيئي، وهي التي وضعت قضايا البيئة والحفاظ عليها ضمن أولوياتها عقب تأسيسها. واليوم تتبوأ الإمارات مكانة الصدارة عالمياً بامتلاكها أكبر بصمة بيئية، ناهيك عن إجراءات وقوانين عدة تجعل تفاصيل الحياة اليومية صديقة للبيئة ومحافظة عليها. ثم تأتي «المبادرة الاستراتيجية لتحقيق الحياد المناخي بحلول 2050» لتكون بحق نموذجاً عملياً يحتذى للعمل الفعلي والإيجابي على صعيد تغير المناخ ومواجهة تحدياته بشكل منطقي ومستدام ومراعٍ لحقوق الإنسان، لا سيما الأجيال المقبلة التي تستحق عن حق حياة أكثر أمناً ومراعاة للبيئة.

وما أعلنته الإمارات ليس حبراً على ورق أو على سبيل الوجاهة. صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، قال في تغريدة إن «نموذجنا التنموي سيراعي هذا الهدف (الحياد المناخي) وجميع المؤسسات ستعمل كفريق واحد لتحقيقه». المبادرة تحمل سر النجاح وتوليفته، بدءاً بإعلانها بعد دراسة متأنية ومواكبة للعصر، مروراً بتحويلها إلى سياسة عمل لكل المؤسسات، وانتهاءً بـ600 مليار درهم ستستثمرها الإمارات في الطاقة النظيفة والمتجددة حتى عام 2050. وهذا ترجمة فعلية لاطلاع الدول بمسؤولياتها البيئية.

وفي السياق نفسه، تأتي مصر مرشحة قوية لاستضافة مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ العام المقبل، وهي فعالية أممية بالغة الأهمية. وكان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أعلن رغبة مصر استضافة المؤتمر في 2022، آملاً أن يكون نقطة انطلاق لعمل المناخ الدولي المشترك مع كل الأطراف لما فيه صالح أفريقيا والعالم.

صارت البيئة ضرورة عربية وصارت حقوق المواطن العربي البيئية حتمية وتأجيلها يضر الجميع.

* كاتبة صحافية مصرية

Email