مع راشد بن سعيد.. في ذكراه

ت + ت - الحجم الطبيعي

في مثل هذا الشهر، أكتوبر، من العام 1990، أغمض المغفور له بإذن الله، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيّب الله ثراه، عينيه ورحل عن دنيانا وهو في الثمانين من عمره؛ إذ ولد، رحمه الله، عام 1912، ورحل بعد حياة حافلة وثرية بمنجزاتٍ قليلاً ما يجد المؤرخ والمتابع مثيلاً لها في المنطقة العربية، لزعماء وقادة قُدّر لهم أن يمسكوا زمام الأمور في بلدانهم وممالكهم.

وحتى خلال السنوات العشر الأخيرة من حياته 1980 ــ 1990، والتي كان في معظم أوقاتها طريح الفراش؛ بسبب أمراض الشيخوخة التي داهمته بشكل مفاجئ، لكن البيئة الإدارية المتينة التي أوجدها الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيّب الله ثراه، كانت سائدة ومستمرة، ومشى على نهجها أبناؤه الكرام، بانضباط وانتظام.

بروز

وخلال فترة شبابه، كان المغفور له بإذن الله، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، قد برز بوصفه متحمساً ومفعماً بالحيوية وحكيماً، وقد لفت إليه الأنظار، حينذاك، وهو يقف متحدياً أولئك الذين حاولوا مناوأة أبيه المرحوم الشيخ سعيد بن مكتوم، الذي تولى الحكم في دبي عام 1912، سنة ميلاد الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، وكان المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيّب الله ثراه، إبان بروزه بدءاً من العام 1935، في الـ 23 من العمر، شاباً وسيماً طويل القامة ذا طلعة بهية، وتشع من عينيه الهيبة والذكاء، يتمنطق بخنجره الفضي.

ويلف في أغلب الأوقات رأسه بغترة بيضاء، التسفيرة العُمانية، في أشهر الصيف، وبالشال الكشميري «ترمه» في الشتاء، ولم يضع الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيّب الله ثراه، العقال الخليجي على رأسه كمعظم أهالي الإمارات إلا في بداية الخمسينيات من القرن المنصرم؛ حيث بدأت التسفيرة تقل مشاهدتها ويكثر بين الناس لبس العقال شيئاً فشيئاً، إلى أن أعاد المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، للتسفيرة العربية العُمانية رونقها بعد ذلك في أشكال عفوية أو «كاجولية».

حنكة ودراية

وقد سلم المرحوم الشيخ سعيد بن مكتوم، إلى المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم زمام الإدارة، فأدار الدفة بحنكة ودراية وبُعد نظرٍ خلق الإعجاب، وأصبح المغفور له بإذن الله، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيّب الله ثراه، بعد ذلك الحين، ومنذ سبتمبر 1939، مرجعاً رئيسياً لكل مقيم ووافد وذي علاقة بدبي من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وحينذاك، كانت الحرب العالمية الثانية موقدة النيران تكوي العالم من أدناه إلى أقصاه، وكانت مناطق الخليج العربي والجزيرة العربية بأكملها مناطق غير مريحة تتنازعها الصدامات القبلية ويعمها ضنك العيش وسوء الأحوال، ومع ذلك ظلت دبي تحت قيادته وهو حينها الشاب الحكيم الواعي، واحة أمانٍ وذات نشاط تجاري ملحوظ وميناء بحري نشط طوال سنوات الحرب العالمية الثانية التي استغرقت ست سنوات.

نشط ومتحمس

وما إن وضعت الحرب العالمية أوزارها في العام 1945، وبالرغم من بروز بعض المشكلات القبلية التي وضعت عائقاً أمام خطوات الإعمار في دبي، وفي كل إمارات الدولة، والتي تشكل حالياً دولة الإمارات العربية المتحدة، وحتى العام 1950، أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، كان المغفور له بإذن الله، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيّب الله ثراه، نشطاً ومتحمساً لوضع دبي على الخريطة العالمية وإبرازها كسوق وميناء إقليمي يخلف الموانئ الخليجية التاريخية كهرمز وسيراف ولنجة وغيرها من تلك التي كان لها في ماضي الزمان القدح المعلّى في التجارة العالمية بين بحار الخليج وعُمان وبين العالم.

وكان المغفور له بإذن الله، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيّب الله ثراه، يسمع ويتعلم من التجار وأحفاد النواخذة الكبار الذين كان يجالسهم، عما كان لهذه الموانئ الخليجية من رونق في الماضي، وأسباب اضمحلالها التي كان معظمها بسبب النزاعات الإقليمية والصدامات القبلية وهيمنة التشدد الديني والفئوي وفساد الإدارة وسوء المعاملة التي مهدت للتدخلات الأجنبية الطامعة.

وكان المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، يعلم بكل ثقة أن صيانة ما حققته دبي من سمعة مركزية للتجارة منذ عهد جده الشيخ مكتوم بن حشر بن مكتوم، شيء في غاية الأهمية والضرورة لاستمرار النمو في بلده والحفاظ على مكتسباته..

وأول شيء خطر بباله وتأكد منه كدعامة أساسية للنمو التجاري، هو وجود مصرف أو بنك ذي احتكاك بالتجارة الإقليمية والعالمية، وكان البنك البريطاني لإيران والشرق الأوسط، بنك (HSBC)، حالياً، أحد المصارف الذي أطل برأسه في المناطق الخليجية بعد إيران، «في الكويت والبحرين».

فانتدب المغفور له بإذن الله، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، تاجرين من تجار دبي للاتصال بالبنك والتفاوض معه لفتح فرع في دبي، والتاجران هما، ناصر بن عبد اللطيف السركال وعبد الله مراد البستكي، الذي كان مديراً لتجارة مصطفى عبد اللطيف الواسعة، وكانت لها فروع كثيرة في الخليج ومنها دبي، وانتقلت إليها هذه المؤسسة التجارية عام 1903، في عهد الشيخ مكتوم بن حشر بن مكتوم.

وتكللت المفاوضات بالنجاح؛ حيث كان البنك نفسه يعد العدة للدخول في مفاوضات كهذه، واستأجر البنك مبنى تجارياً تابعاً إلى حمد الفطيم، في رأس العبرة «سوق ديرة»، وافتتح الفرع وبدأ البنك المسمى البنك البريطاني لإيران والشرق الأوسط ممارسة أعماله في يناير 1946، ولهذا المبنى صورة نشرها كودري، ضمن صوره التي نشرها عن دبي والإمارات في عام 1950 ــ 1951.

ولا شك، أن وجود بنك يتعامل معه التجار في دبي كان عاملاً مهماً في ترويج تجارة الصادر والوارد، ووجود البنك كأول مصرف في المنطقة «الإمارات العربية المتحدة»، يعود الفضل فيه لفكر المغفور له بإذن الله، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، وسعة أفقه في تلك الأيام التي لم يكن من السهل أن يجد الإنسان فيها مسؤولين كباراً في هذه المنطقة يخططون ويمهدون لمثل هذه المشروعات الكبيرة وذات النفع العام.

نقطة تحول

ثم جاء التفكير في حفر الخور من قِبل المغفور له بإذن الله، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، والخور كما هو معروف كان يمثل الشريان الذي يغذي الحياة في دبي، ويجعلها متميزة ونادرة المثيل في المنطقة، وعلى جانبي الخور كان يقع الميناء وتقع الجمارك، هذا المشروع الحيوي المهم الذي قفز بدبي وتجارتها وموانئها إلى القرن الحادي والعشرين، والذي اعتبره صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، نقطة تحول رئيسية حدثت في تاريخ دبي العمراني، كان المغفور له بإذن الله، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، مُصراً وبعزيمة لا متناهية وتخطيط فيه الكثير من الحنكة والتجربة في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، على أن ينجز مشروع الخور وينقذ سمعة ميناء دبي من التراجع بسبب تراكم الرمال في مداخل الخور وفي قيعانه، مما كان يعيق دخول السفن ذات الحمولات الكبيرة في الخور.

وكل ذلك بالرغم من قلة الإمكانيات والموارد المالية المساعدة، ولكن همة المغفور له بإذن الله، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيّب الله ثراه، العالية، وسمعته وثقة الناس بوفاء هذا الرجل بتعهداته والتزاماته سهلت التمويل وجعلته ميسراً للقيام بهذا المشروع ذي الأهمية الخاصة، ولقيام المشروع وإعداده للتنفيذ مبحث آخر تحدثنا عنه، ونرجو أن تتاح فرصة للحديث عنه في المستقبل.

جانب تاريخي

كما يلاحظ القارئ لهذا المقال، فإن حديثنا هنا بمناسبة مرور 31 عاماً على رحيل هذا القائد الكبير ورجل الدولة العالي المقام، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيّب الله ثراه، يقتصر على جانب من جوانب التاريخ التجاري والاقتصادي لدبي.. ولم نتطرق للجوانب المتعددة الأخرى ومنها الجانب السياسي الذي يعتبر الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، فيه في مكانة عالية بين الحكام والقادة الذين شهدهم المجتمع العربي والإسلامي في تاريخه الطويل.

Email