لم نعد مقبلين، بل أقبلنا بالفعل على نظام طبقي جديد. مكوناته جارٍ ضبطها، ومعاييره تخضع للمرحلة الأخيرة من القياس والتأكد من عدم اختراقها أو النصب والاحتيال بغرض ادعاء الانتماء لها.
كوفيد 19 قرر أن يساعد العالم ويسن له نظاماً طبقياً جديداً لم يكن على البال أو الخاطر. تلقي الشخص للقاح مناهض لفيروس كوفيد 19 من عدمه، لم يعد مجرد وسيلة تطمح إلى توفير أكبر قدر ممكن من الحماية الصحية، بل أصبح الطريق الوحيد للسفر أو العمل أو الدراسة أو حتى الترفيه. صحيح أن النظام الطبقي الجديد ما زال في طور التأسيس، ولم يخرج بصورته النهائية بعد، ولكنه صار جلياً واضحاً وأكثر وضوحاً من طبقية الثروة والعائلة والعرق والمعتقد.
الاعتقاد بأن الحصول على جرعتي اللقاح كاملتين هو نهاية المطاف خطأ. فبالإضافة إلى الزوايا الطبية التي لم تحسم أمرها بعد عما إذا كانت البشرية ستحتاج جرعة ثالثة معززة، أو لقاحاً سنوياً، إلخ، فإن نوع اللقاح أصبح في مرمى نيران الانتقاء. البعض يراه انتقاء سياسياً، والبعض الآخر يربط بينه وبين المنافع الاقتصادية والمصالح التجارية.
فمثلاً ملايين البشر الذين تلقوا لقاحات «لم تعتمد» في دول أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية ولكنها تتمتع بالقدر نفسه من الوقاية الذي تمنحه أقرانها من اللقاحات المعترف بها وربما أكثر، سيجدون أنفسهم مضطرين إلى البحث عن سبل تسمح لهم بالسفر والتنقل لدول لا تقبل هوية لقاحهم.
هوية اللقاح ليست وحدها المعضلة. فهناك كذلك قرارات وإجراءات تتغير على مدار الساعة وخاصة من قبل كل دولة على حدة، وذلك بغرض حماية مواطنيها والمقيمين قدر الإمكان من هجمات جديدة أو متحورة للفيروس قد تكون قادمة من دول أخرى.
وهنا، تُجرى إعادة ترسيم جديد لمفهوم الحدود الجغرافية بعد إضافة مكونات جديدة لا تقوم فقط على الحصول على تأشيرة وما يضمن التزام الفرد مدة إقامة محددة وعدم القيام بأنشطة لا يسمح للزائرين به، إلخ، ولكن إضافة ترسانة من القيود التي تحدد نوع اللقاح الحاصل عليه الزائر أو إلزامه بالخضوع لاختبارات كورونا وما يعنيه ذلك من تكلفة إضافية.
تكلفة الوباء لم ولن تقف عند حدود ما ألحقته بدول العالم من خسائر اقتصادية واجتماعية ومن قبلها خسائر الأرواح. فهي تضيف بنوداً جديدة خاصة باللقاح الذي يبدو أنه سيصبح أحد أكبر مصادر الدخل والربح للمصنعين والتكلفة على الحكومات في الدول التي ستوفره باعتباره حقاً أساسياً من حقوق الإنسان، أو تلك التي ستعجز عن ذلك ما يعني أن من يملك سيحصل على التحصين ومن لا يملك لن يحظى بالتحصين.
«طبقة المحصنين» أصبحت واقعاً. ولندعنا من هؤلاء الذين ينظمون المسيرات ويتظاهرون وينادون بسقوط اللقاحات ومجرد التلميح بفكرة الإجبار أو شرط التلقيح للحصول على خدمات بعينها أو العمل أو الدراسة أو حتى الاستمتاع بوجبة عشاء في مطعم أو مشروب في مقهى. في رأيي التظاهر ضد اللقاح يقتصر على البعض من سكان العالم الأول حيث قائمة أولويات مختلفة، أو ممن ينتهجون نهجاً حقوقياً أعدّه متطرفاً. المقصود هنا هو النقيض الآخر حيث دول عاجزة تماماً عن تلقيح الحد الأدنى من سكانها، وهو ما يعكس زاوية من زوايا طبقية اللقاح الجديدة.
معامل اللقاحات في العالم أنتجت نحو 18،7 مليار جرعة، ذهب 80 في المئة منها إلى الدول الغنية. صحيح أن دولة مثل الإمارات تقوم بواجبها الإنساني كاملاً، فبعدما تم تطعيم أكثر من 93 في المئة من سكانها والمقيمين بجرعة واحدة ونحو 83 في المئة بالجرعتين، تأتي على رأس الدول بذلاً لجهود النقل والتخزين والتوزيع والإهداء لدول أقل حظاً، إلا أن العالم يظل يعاني طبقية شديدة في اللقاح.
الطبقة الملقحة قادمة بكل تأكيد. ولكنها – شأن كل الطبقات - لا تضمن بقاءها على رأس الهرم الطبقي من دون جهود وشروط. فإذا كانت لقاحات بعينها تحظى بالصدارة والأفضلية – لا لمفعولها أو مأمونيتها، بقدر ما تحظى به من رضا سياسي ووفاق اقتصادي - اليوم، فربما يأتي الغد لينصب غيرها محلها. السياسة تتغير والاقتصاد يتقلب. هذه سنة الحياة. تتغير الثوابت وتتقلب، فتتبدل المتغيرات ويعاد ترتيبها.
وها هي دول العالم ماضية قدماً في رسم ملامح التغيير. مجلس الشيوخ في فرنسا أقر مشروعاً مثيراً لجدل عنيف ينص على توسيع نطاق الشهادة الصحية والتلقيح الإجباري. وسبقتها طاجيكستان والفاتيكان. وتحوي القائمة قطاعات بعينها في بريطانيا وروسيا ومصر وأمريكا حيث التلقيح الإجباري يأتي في صورة شرط التلقيح للحصول على خدمات أو متابعة العمل أو الدراسة.
الواضح أن «طبقة الملقحين الجدد» ستغير من شكل العالم، ولكن الشكل النهائي والمؤقت في آن لم يرسم بعد.
* كاتبة صحافية مصرية