واقع الحقوق وازدواج المعايير

ت + ت - الحجم الطبيعي

واقع الحقوق لا يقبل الفصال أو التجزئة أو المعايير المزدوجة. كما لا يصح أن يتلوّن بألوان السياسة أو يخضع للمعايير الموسمية أو يقبل القسمة على اثنين أو ثلاثة أو أكثر.

واقع حقوق الإنسان في أي دولة من دول العالم ليس كاملاً، بما في ذلك الدول التي تتربع على قمة الأكثر مراعاة واحتراماً للحقوق. فالكمال لله. والمطالبة بتحسين أداء الأنظمة والحكومات فيما يختص بحقوق المواطنين أمر مقبول ومحمود. وتقييم الأداء وقياس الناتج وبناء خطط المستقبل بناء عليهما هو دمج للقياس العلمي مع الأداء السياسي الاجتماعي الإنساني المرجو للدول التي تحترم مواطنيها والمقيمين فيها.

إلا أن واقع الحال في العقود القليلة الماضية يخبرنا أن «عصا» الحقوق اجتاحتها السياسة حتى غمرتها، وتمكّنت منها المصالح الاقتصادية والأمنية وتوازناتهما حتى أوشكت أن تفقدها الكثير من مصداقيتها.

مصداقية أداء الدول فيما يتعلق بحقوق الإنسان لا يمكن أن ترتكز على ما تصدره الدول نفسها من تقارير فقط. لكنها أيضاً لا يجب أن تُستمد فقط من جهات خارجية من مؤسسات ومنظمات وبرلمانات وهيئات نيابية لا علاقة لها بالدول إلا في نطاق العلاقات الدبلوماسية والاستراتيجية والاقتصادية التي توجد بين الدول. فما أن تدخل العلاقات السياسية/‏‏‏ الاقتصادية (مهما بلغت من قوة وأخوة وقدم) من الباب حتى يخرج الحياد من الشباك.

وشبابيك عدم الحياد كثيرة، ومنافذ التسلل للنيل من سمعة الأوطان والضغط عليها عبر التقارير والدراسات والطعنات ما خفي منها وما بطن لا تعد أو تحصى.

مرة أخرى، منظومة حقوق الإنسان قديمة قدم الإنسان نفسه. هي ليست وليدة الأمس أو نتاج ابتكار أول من أمس. ربما تكون صياغتها في مواثيق، وترتيب بنودها في اتفاقات، وتحديث محتواها حسب تطور الحياة وظهور احتياجات حديثة واندثار أخرى من الأمور الحديثة التي تتبناها منظمات وجمعيات وجماعات وأيضاً مجالس نيابية حديثة.

لكن فرط الحداثة أحياناً ومعه احتكار الفكر الحقوقي ومنظومته من قبل البعض يصيب الرؤى أحياناً بقصر شديد في النظر. والاعتماد على «قائمة تدقيق» أو check list موحدة يتم وضع علامة «صح» أمام العناصر المتوافرة و«خطأ» أمام العناصر الغائبة، أو الاكتفاء باستقاء مكونات قائمة التدقيق من أشخاص أصحاب توجهات سياسية أو أيديولوجية سابقة التعليب، يفقد عملية التقييم مصداقيتها وشفافيتها.

هذه ليست ذرائع أو حجج تساق لتبرير نقاط ضعف هنا أو انتقاصات هناك، لكنها محاولة لسد الفجوات في الصورة الأكبر لإشكالية التقييم الحقوقي المحلي الوارد من الخارج.

المعايير المزدوجة في تطبيق وتقييم حقوق الإنسان، والتجاهل المتعمد لانتقاصات في بلد ما، في مقابل «الوقوف على الواحدة» لبلد ما آخر مكتوب عنه مجلدات ولا يحتاج مجلداً جديداً.

وليس هناك دليل أكبر على تسييس الحقوق وتلونها بألوان السياسة والمصالح من القرارات التي تربط المساعدات بالتقارير، والأسلحة بالعلاقات الاستراتيجية، والسياحة بالتواؤمات الإقليمية، والقائمة طويلة. قبل أيام قليلة، قال متحدث باسم الخارجية الأمريكية إن إدارة الرئيس بايدن ستعلق تسليم مصر ما قيمته 130 مليون دولار من المساعدات العسكرية، وربطها بـ«إسقاط مصر المحاكمات والاتهامات الموجهة ضد نشطاء ومنظمات حقوق الإنسان».

وبعيداً عن كون التدخل في سير المحاكمات والقضاء من قبل ساسة الدولة نفسها أمراً مستهجناً وغير مقبول، فما بالك بتدخل دول أخرى في صميم عمل القضاء، فإن علامات استفهام وتعجب عدة تطرح نفسها أمام القرار. الطريف أن المصريين أنفسهم لم يتعجبوا من القرار. لماذا؟ لأنهم اعتادوا هذا التسييس على مدار عقود.

عقود طويلة جرى فيها الكثير للمنظومة الحقوقية. تطورت وتغيرت وتحدثت؟ نعم. لكنها أيضاً تعقدت وتشابكت وتسيست. منظومة حقوق الإنسان من أرقى وأسمى المنظومات الإنسانية، وتسييسها أو استلابها أو احتكارها من قبل البعض، يسيئ إليها ويعبّر عن استهانة بها. وفي المقابل فإن الدول التي تؤمن بهذا المبدأ، تمضي قدماً في تلبية احتياجات مواطنيها الحقوقية من سكن وصحة وتعليم وتعبير وظروف معيشية وحريات وغيرها، غير آبهة بالأصوات النشاز المسيسة التي تظهر بين الحين والآخر.

Email