المؤثّرون باقون ومهيمنون

ت + ت - الحجم الطبيعي

بما أن زمن الوباء لم يفض فقط إلى تغيرات جذرية في أساليب حياتنا اليومية، ومستقبل وظائفنا ووظائف أبنائنا وشكل ومتطلبات سوق العمل، بل وأسلوب العمل نفسه ومكانه وساعاته، وعلاقاتنا الاجتماعية وكذلك سبلنا الترفيهية ووجهات سفرنا بل وسفرنا من الأساس، فإن الوباء الذي قرر أن يكون ضيفاً دائماً لحين إشعار آخر بديلاً عن ضيف ثقيل مؤقت يطرح أسئلة حول دور منصات التواصل الاجتماعي وجموع المؤثرين والمؤثرات في القلب منها. احتفى العالم بهذه الفكرة الرائعة المتمثلة في أفراد هم مواطنون ومواطنات عاديون يطلون على الكوكب عبر مقاطع فيديو أو بث حي أو صور أو تدوينات أو تغريدات يعرضون فيها كل شيء وأي شيء.

قد تكون تفاصيل حياتهم الشخصية أو أسلوب انتقاء ملابسهم أو وسيلة ذهابهم إلى أعمالهم أو طريقة طهي أكلهم وتجهيز شرابهم أو التحضير للامتحانات أو الخروج من المآزق والمعضلات أو حتى اختلاقها. وقد يطلون على الكوكب عبر آراء سياسية أو تحليلات اقتصادية أو أغنيات شعبية أو رؤى روحانية أو تقنية أو اجتماعية أو غيرها.

ميزة العالم الافتراضي ومنصاته وأدواته المتاحة للجميع دون تفرقة هي الرحابة الشديدة مع انعدام فكرة الحدود والسدود والقيود. لكن الميزة كشفت كذلك عن وجه آخر فيه عيوب قاتلة وسموم مميتة. بالطبع هناك جموع من المؤثرين والمؤثرات على أثير منصات التواصل الاجتماعي ما زالت تقدم محتوى فيه الكثير من الفائدة والترفيه اللائق. لكن الضفة المقابلة فيها الكثير أيضاً.

خروج مؤثر واحد لديه آلاف المتابعين ليسخر من فيروس كورونا واصفاً إياه بالوهم أو الخيال، ومحذراً من تلقي لقاحاته كفيل بإفساد جهود أشهر طويلة ومليارات الأموال المنفقة للتوعية والتلقيح. وظهور آخر ليعلي من شأن العنف أو التنمر أو الكراهية أو حتى متحدثاً عن الانتحار باعتباره حقاً من حقوق الإنسان، أو مروجاً لإثارة مميتة تدعو إلى تجربة مواد مخدرة أو ألعاب قاتلة من شأنه أن يلحق الكثير من الضرر لآلاف البشر، لا سيما من صغار السن.

كما أن آثار ما يعرف بـ«العلاقات ما وراء الاجتماعية» أو الموازية لها أو الشبيهة بها بين المؤثر أو المؤثرة وجموع المتابعين لم يتطرق إليها أحد بعد لحداثة ظاهرة المؤثرين النسبية. هذه العلاقات والمعروفة بـ Parasocial relationships

ظلت حكراً على المشاهير الذين كانوا يدخلون بيوتنا وحياتنا عبر وسائل الإعلام والاتصال التقليدية في زمن ما قبل الشبكة العنكبوتية. هذه العلاقات هي أحادية الجانب وفيها يوجه المتلقي جانباً كبيراً – وأحياناً الجانب الأكبر - من عواطفه ووقته واهتماماته لطرف آخر لا يعرفه معرفة شخصية. هذا الطرف الآخر يظل على الأرجح غير مدرك تماماً لوجوده من الأصل. فهذا الطرف الآخر شخصية مشهورة مثل سياسي أو فنان أو رجل دين أو رياضي أو فريق كرة أو فرقة موسيقية أو ما شابه.

وحتى في حال التفاعل، فعادة يكون عن طريق طرف ثالث يقدم نفسه باعتباره ممثلاً أو لسان حال الشخصية المشهورة للرد على المعجبين والتفاعل معهم. وأخيراً، انضم المؤثرون والمؤثرات لهذا النوع من العلاقة التي غالباً لا يدرك طرفها الأول والأساسي – ألا وهو المتابع - إنها علاقة أحادية.

ولأن تفاصيل هذه العلاقة الأحادية تجري عادة عبر شاشات شخصية لا يراها المحيطون حتى لو كانوا يجلسون على الأريكة ذاتها، فإن أثر المؤثرين يظل طي الشاشات.

هذه ليست دعوة للمنع أو الحجب أو حتى الرقابة، وإن كانت الرقابة على المتلقين والمتابعين من الأطفال والمراهقين من قبل الأهل والمؤسسات التعليمية التربوية واجباً أصيلاً. ولا ننسى كذلك دور شركات التواصل الاجتماعي فيما يتم تحميله ونشره على منصاتها. لكنه يبقى في أغلبه دوراً تتجاذبه السياسة والأرباح وأيديولوجيات عدة. هذه دعوة للتعامل مع مجتمع المؤثرين بواقعية بعيداً عن التبجيل «على بياض» أي دون حساب.

وهي أيضاً دعوة للتعامل مع مجتمع المؤثرين باعتبارهم أمراً واقعاً لا مجال لمنعهم وإغلاق أبواب الدول والمجتمعات لإبقائهم خارجها، فالأبواب لم تعد موجودة، وإلا لأصبحنا كمن يناطح طواحين الهواء. مجتمع المؤثرين والمؤثرات بات مجتمعاً قائماً بذاته لا مجال لإلغائه أو تهميشه إلا لو أراد صانعوه ذلك، وصانعوه لا يريدون ذلك حتى الآن. بل إن هذا المجتمع مرشح للعب أدوار أكبر والتمتع بآثار أوسع وبناء قواعد متابعين مليارية أقوى بينما الكوكب يسعى للتعايش مع الوباء. التعايش مع الوباء يعني انتقالاً مستمراً لدائرة رحاه من أرض الواقع إلى العوالم الافتراضية.

هذا الانتقال يحوي مكاناً ومكانة متفردين للمؤثرين. هذا المكان وهذه المكانة تتضح أماراتهما في استعانة أنظمة عدة بهم، وكذلك في صناعة مؤثرين ممولين مالياً وفكرياً من مؤسسات وجهات عدة لتضمن تواجداً في النظام الجديد وغيرها. النظام الجديد إذن يتطلب رؤية جديدة وتعاملاً إبداعياً وتعايشاً ذكياً واستشرافاً نافذ البصيرة.

Email