بين المنّة والامتنان

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد أن وطّد عبد الرحمن الداخل أمور مُلْكه في الأندلس، بعد سنين اغتراب وذعر طويلة، ومحاولات اغتيال لا تنتهي لأعدائه، ونزاعات لم تتوقف من الطامعين في نهب ما تبقّى من مُلك أجداده، لكنّه وقف لها موقف الكفء، الذي ينعدم نظيره، حتى استقرّت له الأمور، فوصلت لمسمعه أقاويل البعض ممن يحاولون اجترار انتصاراته لهم، ونِسبة لمعان نجمه لفضلهم هم عليه، فقال قصيدته الشهيرة، حتى يُعيد لكل مَن طاش صوابه بقيّة رُشْده:

لا يَلْفِ مُمْتَنٌ علينــا، قـائلٌ: لولاي ما مَلَكَ الأنامَ الداخِلُ

سَعْدي وحزمي والمهنّدُ والقنا ومقادرٌ حانت وحالٌ حائلُ

ولأنه ليس من عادتي أن أرى الجميع بنفس الطريقة، فلا يُحْكَم على الكل بتصرّف البعض، ولا يُؤاخَذ غير المسيء بجريرة المسيء، فحديثي في هذا المقال، لا يتوجّه إلى مَن لم نَرَ مِنه إلا الخير، وصادق الجُهد، وحُسن العشرة، ووافر الامتنان، مِن إخوتنا العرب وأصدقائنا وزملائنا الأجانب، ممن يُقيم ويعمل على هذه الأرض الطيبة، وهم الأكثرية، والحمد لله تعالى، ولكن المقصودين هم أولئك الذين صُدِمنا مِن ردودهم على نشر خبر الحزمة الثانية من مشاريع الخمسين، والتي استهدفت تمكين الشباب المواطن من القطاع الخاص، فخرجت لنا ردود بين هامز ولامز، وبين ساخر وممتعض، بل وصل الأمر بقلّةٍ منهم، أن وصمت البلد بالعنصرية والانحياز لابن البلد!

«العنصرية والانحياز لابن البلد»، لا أعلم لِمَ لا يبدو لي هذا مستهجناً، ففي كل بلد، تكون الأولوية دوماً لحامل جنسية ذاك البلد، وأولها دول أولئك الناقمين، وليت شعري إنْ كانوا محتجين على أولوية المواطن هنا في وطنه ببعض المبادرات، فهل سيقبلون بأن يساويهم في المعاملة داخل بلدانهم الأصلية؟، ولماذا وصم تنظيم دخول القادمين للمطارات بأنه شعار عنصرية؟ أليست كل مطارات الدنيا، يكون فيها ممر خاص بمواطني تلك الدولة، ثم ممر للدول ذات التحالفات الإقليمية معها، ثم ممر لبقية دول العالم؟ لماذا أصبح الأمر عنصرية لدينا، وعُرْفاً لا يُسْتَغْرَب في بقية الدنيا!

ثم ما قصّة تلك الفوقية، وادّعاء أنّ الدولة تُضحي بالكفاءات العالية جداً، من أجل توظيف مواطنيها بدلاً عنهم في القطاع الخاص؟، للعلم، فإنّ تفوّق الدولة وريادتها في تصدّر كافة الدولة العربية ودول الشرق الأوسط في مؤشرات التنافسية العالمية، يعود إلى كفاءة المؤسسات الاتحادية، والتي يشغل أغلب وظائفها شباب مواطن، أمّا الادّعاءات الفارغة بتفرّد الكفاءات في القطاع الخاص، فلم نَرَ له نتيجة ملموسة، وها هي قائمة Fortune 500، وقائمة Forbes 500، لأفضل وأقوى الشركات العالمية، خالية من أي شركة قطاع خاص لدينا، ولسنين متتالية طويلة، فأين هي الكفاءات العالية جداً، التي يمتنّ بها البعض علينا، وهي لا تستطيع أن تدخل، ولو مرة، و«بالغلط»، لتلك القوائم!

إن عالي الكفاءة لا يثرثر ويصطنع المعارك في وسائل التواصل الاجتماعي، فكفاءته تتحدث نيابة عنه، وتميّزه، واجتهاده ونزاهته دوماً ما تكون معيار تقييمه في أي مؤسسة محترمة، ولا يحاول إثارة الغبار في وجه الشمس، ويتباكى على الكفاءات التي ستُرْغَم على الرحيل، إلا منعدم الكفاءة أصلاً، والذي يعلم أنّه لا يستطيع الوقوف موقف الند أمام الآخرين في نفس مجاله، فيحاول جرّ شريحةٍ مؤيدة له تجاه أي قرار، قد يجعل قدراته الحقيقية مكشوفة!

هذا الوطن المبارك، قال عن نهجه المؤسس الكبير، الشيخ زايد، عليه رحمات الله تترى: «الرزق رزق الله، والمال مال الله، والفضل فضل الله، والخلق خلق الله، والأرض أرض الله، واللي بيجينا حيّاه الله»، فمن أتى لم يجد وجوهاً متجهمة، ولا قلوباً مبغضة، بل سيجد المواطن خير مُضيف، وخير جار، وخير شريك، وخير صاحب، ومَن أتى وصدق في عمله واجتهد، لم يُبْخَس حقه، فكم من حالمٍ نال ما يتمناه، وكم من أسرة قامت، وكم من قلبٍ جُبِر، وكم من بيتٍ سُتِر، وكم من غاية أُدْرِكَت، بفضل الله أولاً، ثم بفضل هذا البلد الخيّر.

إنّ من أحب الشجرة، أحب أغصانها، ومن نال من خير هذا البلد، حريّ به أن يقتدي بالشريحة الكبرى من القادمين هنا، مِمّن نرى منهم صدق الامتنان وجميل العرفان، ومن لم يرَ لأهل الدار أولوية في دارهم، فقد أضاع الطريق وأساء الطريقة!

Email