الهند.. الأولوية للقوة البحرية

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ القدم لعبت البحار والمحيطات أدواراً مهمة في تحديد مصائر الأمم والشعوب، وكانت مكاناً لحسم نتائج الحروب على نحو ما حدث في البحر الأبيض المتوسط تحديداً الذي شهد تاريخياً أكبر قدر من العنف والمعارك.

غير أن العقود والسنوات الأخيرة حولت كل بحور ومحيطات كوكبنا إلى ساحات محتملة للنزاع، بسبب تزايد درجة التنافس العالمي والإقليمي حول الموارد والممرات الآمنة للتجارة وتدفق النفط، ثم بسبب ظواهر القرصنة البحرية وإرهاب التنظيمات المسلحة والاعتداء على ناقلات النفط وعمليات تهريب البشر والاتجار بهم.

وهكذا صار البحر الأحمر، بسبب مضائقه الاستراتيجية، موضوعاً للتنافس بين الدول المشاطئة أو بين القوى البعيدة المتطلعة للهيمنة عليه لأغراض جيواستراتيجية، وتحول المحيط الهندي من بحر للمستقبل والتبادل التجاري الحر إلى ساحة للتنافس الهندي ــ الصيني، وبات المحيط الهادئ ميداناً محتملاً لتفجر نزاعات مسلحة بين العملاق الصيني والولايات المتحدة.

ومن هنا فإن الدول في سباق من أجل تعزيز قوتها البحرية، وبما يحفظ لها تفوقاً أو حضوراً مهاباً أو نفوذاً في البحار. ونجد تجليات هذا السباق في الإنفاق الضخم على شراء وصناعة وتطوير وبناء القطع البحرية. وهذا ما فعله العملاق الصيني طوال العقدين الماضيين، وهذا ما فعلته وتفعله الهند أيضاً.

وفيما خص الهند، نجد خبيراً استراتيجياً كالأدميرال الأمريكي المتقاعد جيمس ستافريديس (العميد الحالي لمدرسة القانون والدبلوماسية بجامعة تافتس) يناشد بلاده، في كتابه «القوة البحرية»، أن تأخذ في الاعتبار قوة الهند البحرية المتصاعدة، وأن تسعى إلى تعزيز علاقاتها مع نيودلهي في المجال البحري تحديداً، من خلال التدريبات والتمارين المشتركة ومبيعات الأجهزة البحرية المتقدمة وتشغيل الغواصات النووية وتطوير البرامج الأكاديمية البحرية المشتركة، علاوة على التعاون في مجال مكافحة القرصنة والإرهاب البحري.

ويوصي ستافريديس بأن يتم إشراك دول أخرى في التعاون الأمريكي ــ الهندي البحري (كاليابان وفيتنام وأستراليا ونيوزيلندا) لدفع الحرج عن الحكومة الهندية حيال معارضات واحتجاجات داخلية محتملة.

وفي السياق نفسه نشرت صحيفة «وول ستريت جورنال» تقريراً العام الماضي قالت فيه إن الهند تمتلك واحدة من أكبر القوات البحرية في العالم، وأنها كانت في الماضي تركز على حماية حدودها البرية المشتركة مع جارتيها في الشمال والغرب، لكن التفكير الأمني والجيوسياسي الهندي بدأ اليوم يعير اهتماماً أكبر للبحر وبشكل يتوافق مع نمو التجارة الخارجية للبلاد وتزايد حاجتها للنفط المستورد من جهة، وتنامي نفوذ العملاق الصيني في الدول المطلة على المحيط الهندي من جهة أخرى.

ومناسبة حديثنا هذا هو أنه لوحظ قبيل ذكرى استقلال الهند الـ74، الذي صادف الخامس عشر من أغسطس الجاري، تحركات هندية للإيحاء بأن نيودلهي تولي أهمية قصوى لقوتها البحرية، وأنها مستعدة للانخراط في تعاون بحري وثيق مع كل الدول الصديقة من أجل ضمان الأمن والسلم الإقليميين. وهذا التوجه الهندي، بطبيعة الحال، يلتقي مع توجه دول الخليج العربية وحاجتها لتطوير قدراتها البحرية وتوظيف التقنيات الحديثة (الذكاء الاصطناعي تحديداً) في ذلك، خصوصاً في ضوء الهجمات الأخيرة على ناقلات النفط.

وجاءت التدريبات المشتركة التي شهدتها مياه الخليج العربي هذا الشهر بين الأسطولين البحريين السعودي والهندي بهدف تأسيس شراكة بحرية بين البلدين قوامها تبادل الخبرات وتطوير عمليات القيادة والسيطرة وتوحيد إجراءات ومفاهيم العمل العسكري البحري المشترك.

ومن هنا أيضاً جاءت زيارة المدمرة الهندية «كوتشي»، العاملة في مياه الخليج العربي وخليج عمان إلى البحرين في الذكرى الخمسين لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين المنامة ونيودلهي هذا الشهر، علماً بأن سفن البحرية الهندية لم تنقطع عن زيارة الموانئ البحرينية، لكن إرسال هذه المدمرة في هذا التوقيت بالذات، له مغزى، لاسيما وأن «كوتشي» ليست مدمرة عادية وإنما واحدة من أقوى سفن الأسطول الهندي، كونها مجهزة بشبكات رقمية متطورة، ومجموعة من الأسلحة وأجهزة الاستشعار لكشف أي تهديد من الجو أو البحر أو تحت الماء.

ولعل أبرز تحرك للهند سبق احتفالاتها بذكرى استقلالها هو قيام أول حاملة طائرات هندية محلية الصنع، وهي حاملة الطائرات IAC Vikrant التي تزن 40 ألف طن برحلتها البحرية الأولى للتأكد من جاهزيتها الكاملة قبل تدشينها رسمياً العام القادم في الذكري الـ75 للاستقلال. وبهذه المناسبة أكد المتحدث باسم البحرية الهندية أنه تم اختبار هيكل الحاملة، وقوة دفعها وقدرتها على توليد الطاقة وأداء كافة معداتها، «فتأكدنا أن كل شيء يعمل بصورة مرضية».

Email