الإنسان والحياة.. دروسٌ متبادلة

ت + ت - الحجم الطبيعي

بصوتٍ معمورٍ بالثقة والعزيمة، وبكلماتٍ تمّ اختيارها بعناية فائقة، نشر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، على حسابه في «تيك توك» تدوينةً معدودة الكلمات، زاخرة بالمعاني النيّرات جعلها مختلفة عن الوسم الذي ينشر كثيراً عليه من أفكاره المشهور بوسم «علّمتني الحياة» حيث أضاف صاحب السموّ اليومَ إضافة مقصودة بعناية وذكاء حين اختار أن يكون الوسم «علّمتنا الأيّام وعلّمناها» في إشارة من سموّه إلى فاعلية الإنسان، وأنه ليس ذلك الكائن المتلقي الذي يتلقى دروس الحياة دون أدنى إسهامٍ منه في صياغة معادلاتها، فكما يتعلم من الحياة فهو يعلّم الحياة، وتكون العلاقة بينهما هي علاقة التكامل والعطاء المتبادل.

وحين نتمعن جيداً في فحوى هذه التدوينة الثمينة نسترجع الصدى العميق للقصة الأولى التي افتتح بها صاحب السموّ كتابه (قصتي: 50 قصة في خمسين عاماً) حيث أفصح عن إطلاقه مشروع الإمارات لرواد الفضاء عام 2017م مؤكداً قبل الإعلان عن المشروع الأضخم في مسيرة الوطن على أنه يعشق تحطيم الحواجز أمام شعبه، ويحبّ الوصول إلى قمم غير متوقعة، وأنّ ما يقود الشعوب نحو التطور هو الطموح وليس الوفرة المادية، وأنّ المشروع يحمل رسالة لشعب الإمارات خلاصتها: «لا مستحيل أمام دولة الإمارات، ولا قوة يمكن أن تقف أمام إرادة شعبها»، وفي هذه التدوينة الثمينة يُعيد صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد ترجيع ذلك الصدى العميق لمسيرة الدولة القوية التي قامت على التحديات ومواجهة الصعوبات، والارتقاء فوق فكرة المستحيل.

( علّمتنا الأيّام وعلّمناها أنّ المستحيل وجهة نظر) فالمستحيل فكرة نسبية قد يراها بعض الناس حاجزاً هائلاً بينه وبين تحقيق الطموحات، ويحتمي خلفها لتبرير عجزه وكسله وعدم قدرته على مواجهة التحديات، وهي واحدة من أكثر الأفكار إعاقة للنشاط الإنساني وتقدمه الحضاري، ولا يقهرها شيء سوى الإيمان بكونها وجهة نظر قابلة للفحص وإثبات العكس، فهل كان ممكناً قبل مئة عام طرح فكرة الذهاب إلى القمر؟، وهل يسمح الخيال القديم بكل هذه الإنجازات التي هي عين المستحيل في نظر الإنسان الذي تسكنه فكرة المستحيل، أما صاحب السموّ فقد خاض معترك الحياة من خلال مواجهة ضارية مع هذه الفكرة الضبابية، فكانت إنجازاته المتفردة هي الدرس الذي تعلّمته منه الحياة، وأنّ فكرة المستحيل لا تزيد عن كونها وجهة نظرٍ لبعض الناس ممّن تقعد بهم إرادتهم عن تجاوز فكرة المستحيل، ليظلّ الطموح والتجدد والتفرد والإبداع هي المفردات التي تهيمن على معجم الحياة في نظر صاحب السموّ الذي يعمل بعزيمة صارمة على هزيمة كل مظاهر السلب في الحياة، ويغرس في حديقة الحياة الزاهرة أجمل ورود الحس الإيجابي الذي يجعل للحياة طعماً آخر بمذاق التفوق والريادة والإبداع.

( وأنّه لا يوجد حدود للتميز في السباق نحو الريادة ) وتأكيداً على قهر فكرة المستحيل التي لا تروج إلا على أصحاب الإرادات الضعيفة يجزم صاحب السموّ بأنه لا يوجد حدود فاصلة بين مسارات البشر في سعيهم نحو التميز والوصول إلى المراكز الريادية المتقدمة، فالحدود أوهامٌ يصنعها الإنسان حين تسكنه مشاعر العجز والخمول، ويكتفي بأقلّ القليل بدلاً من الحرص على انتزاع الصدارة في جميع مسارات الحياة، فلأجل هذا يبدّد صاحب السموّ هذه الفكرة الوهمية، فالمجال مفتوح أمام جميع الطاقات الراغبة في تحقيق الذات، وترْك البصمة الخاصة في عالم الإنجاز والإبداع.

( كما علمّتنا وعلّمناها أنّ الرؤية الواضحة والعزيمة القوية والرجال المخلصين يستطيعون تحويل الحلم إلى حقيقة ) هذا هو الدرس الثاني من المعرفة المشتركة بين الإنسان والحياة، وفي هذا المقطع تعلو نبرة صاحب السموّ ليؤكد أن ما تعلمته الحياة من الإنسان هو جوهر التفكير السديد الذي يقوم على الثلاثية الراشدة في مسيرة الحياة: الرؤية الواضحة التي تكفل المسيرة الآمنة وعدم التخبط في المسير، والعزيمة القوية التي تضمن صلابة الموقف وعدم ارتخاء القبضة فضلاً عن السماح لفكرة التراجع بالتسلل إلى الروح المعنوية، والرجال المخلصين الذين هم صمّام الأمان لأي مشروع يحتاج إلى نمط فريد من الرجال، ولقد كانت الإمارات محظوظة جداً بهذه الثلاثية البديعة منذ نشأتها قبل نصف قرن حيث كانت الرؤية الواضحة هي الخارطة الأمينة التي تسير عليها الدولة دون تعثّر أو تراجع، يساندها في ذلك عزيمة قوية لا تلين، وتصميمٌ على بلوغ الأهداف لا يُهادن، ويحوط ذلك ويرعاه بأمانة وقوة وإخلاص رجال ليسوا كالرجال بل هم صقور تحوم في السماء، وينابيع خير وعطاء، ونجوم ضياء واهتداء يتقدم ركبهم ويقود طلائعهم باني الوطن ومشيّد أركانه طيب الذكرى المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيّان طيب الله ثراه، ويسانده في ذلك وبعزيمة باسلة المغفور له طيب الذكرى المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم طيب الله ثراه، ومعهما كوكبة من رجال الوطن وشيوخ الإمارات الذين بذلوا كل غالٍ ونفيس في سبيل بناء الوطن ورفعة شأنه وإعلاء بنيانه.

( لسنا ممّن يكثرون الكلام، أو يغرق في الأحلام، ولكنني أرى رأي العين وأعلم علم اليقين أنّ في هذه الدولة رجالاً ونساء هم أهل لتحقيق هذا الحلم ) ثم كانت هذه الخاتمة الرائعة اللامعة التي تختصر المسافة بين القول والفعل، حيث يؤكد صاحب السموّ على أنّه ليس ممّن يكثرون الكلام حول ماذا سنصنع وماذا سننجز؟ بل ينتهج نهجاً مختلفاً يقوم على العمل الصامت الدؤوب بحيث تكون الأفعال هي التي تتكلم عن صاحبها وليس كثرة الأقوال، فضلاً عن الإغراق في عالم الأحلام الذي يشبه أحلام الصبيان، فالحلم المشروع هو الذي يحفّز الطاقات لتحويل الحلم إلى حقيقة، ولكنّ القائد الحقيقي صاحب البصيرة النافذة هو الذي يعرف أن في صفوف جنده من هو قادر على تحقيق كل الأحلام إلى حقائق، فهو يرى الأشياء ببصيرته وكأنه يراها بباصرته، وهو حين يتوقع الأشياء فكأنما يجزم بوقوعها كعلم اليقين، ولا غرو في ذلك، فإنّ تجربة صاحب السموّ الطويلة الممتدة قد كشفت له عن معادن الأصالة في هذا الشعب الطيب النبيل رجالاً ونساء، وأكدت له أنه يراهن على نماذج متفردة في البذل والعطاء، وها هو الواقع ناطقٌ بلسان فصيح بأنّ مسيرة التقدم في بلادنا قد غدت نموذجاً يُحتذى بسبب القناعة العميقة لدى إنسان هذه البلاد بأنّ الوطن يستحقّ هذا العطاء، وأنه يجب أن يظل في طليعة الشعوب المتقدمة، وأن تظل عجلة التقدم وهدير البناء لا يعرفان الصمت والنكوص، ليكون الإنجاز هو اللغة التي تتكلم عن الحقيقة، ولتظلّ بلادنا نموذجاً في روعة العمران واحترام طاقات الإنسان.

Email