فاز الروائي والكاتب اللبناني-الفرنسي أمين معلوف في هذا الشهر (يوليو) بجائزة مجموعة سفراء الدول الفرنكوفونية في فرنسا (غاف)، عن كتابه «غرق الحضارات». ويستدعي الكتاب مقولة الراحل صامويل هنتغتون، والذي تحدث عن صراع الحضارات بعد انتهاء الحرب الباردة، والتي ظهرت منها الولايات المتحدة منتصرة على غريمها الاتحاد السوفييتي.
وقد سيطرت رؤيتان مختلفتان حول «ماذا بعد الحرب الباردة»؟ الأولى كانت لفرانسيس فوكوياما وأطروحته عن نهاية التاريخ. ويرى فوكوياما أن التطور التاريخي للإنسان انتهى بانتهاء الحرب الباردة. وأن الصراعات بين النظامين الرأسمالي والشيوعي كان المحرك للتطور التاريخي حسب المنطق الديالكتيكي للفيلسوف الألماني هيجل. وعند انتهاء الصراع برزت الليبرالية الرأسمالية والسياسية، ذروة التطور البشري، حيث بلغت غايتها النهائية.
وبعكس فوكوياما ــ ولعله رداً عليه ــ يرى هنتغتون، أستاذ فوكوياما، أن نهاية الصراع الإيديولوجي سيفضي إلى صراع بين الحضارات. والمصطلح لم ينحته هنتغتون بل سبقه كثير من الباحثين والكتاب. وتشير المصادر إلى ألبرت كامو، الروائي الفرنسي، قد أشار إلى الصراع الحضاري بين المستعمر الأوروبي وشعوب المستعمرات في أرجاء العالم. كما أن المؤرخ الشهير برنارد لويس استخدم نفس التعبير لوصف العلاقة بين الإسلام والغرب.
ولكن هنتغتون توسع في المفهوم حول الصراع المقبل في عالم ما بعد الحرب الباردة. ونسج نظرية حول تقسيم العالم إلى مناطق حضارية ستشهد صراعات على الأسس الحضارية وليس على الأيديولوجيات أو مصالح الدول. وقسم العالم إلى الحضارات الغربية، والهندوسية، والأرثودوكسية، والإسلامية واللاتينية، وأفريقيا جنوب الصحراء، والشرقية.
ويتعامل مع هذه الحضارات على أنها كتلة منسجمة مقابل حضارات منسجمة مع نفسها. رغم أن كثيراً من الشواهد تشير إلى صراعات داخل الحضارة نفسها. وأن هناك تحالفات عابرة للحضارات ومناوئة لأعضاء في حضارتها، حسب مفهوم هنتغتون. وليس هناك أبلغ دليل على ذلك من حرب تحرير الكويت والتي حصلت قبل سنتين من مقالة هنتغتون. وقد شهدت هذه الحرب تحالفات من عدة مناطق حضارية.
وعَوْدٌ على بَدْء، فإن الكاتب معلوف يرى أن الحضارات لا تتصارع ولكنها تصطرع. وقد سبق كتابه هذا «غرق الحضارات»، كتابان بعنوانين «اختلال العالم» و«الهويات القاتلة». وأما التبشير بصراع الحضارات، «في غسق القرن العشرين» فإنه افترض وحدة بنيوية لكل حضارة. ولكن ما تفتق هو الصراع داخل الحضارة الواحدة. ولا شك أن العالم العربي شهد هذا الاحتراب الداخلي. ويرى أن أوروبا وأمريكا كانا لهما نصيب من هذا التمزق الداخلي. ورغم أن الكتاب نشر قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، إلا أن ما تمخض عنها يثبت رؤية الكاتب.
ويتميز روح العصر الجديد التأكيد على الفوارق الاجتماعية ومنحها شرعية. فالإثراء الفاحش ما عاد ينظر إليه بتقزز، بل بانبهار. وتراجعت قيم المساواة والعدالة. ويخشى الكاتب من أن اختفاء البوصلة الاجتماعية المتمثلة بالمساواة سيؤدي إلى تفكك النسيج الاجتماعي.
ويدلف كاتبنا في موضوع قد عالجه من قبل وهو صراع الهويات. ويرى أن هذه الهويات أصبحت خطراً على العيش المشترك. وقد شهدت الأجيال كثيراً من الدماء التي أهدرت بسبب الانتماءات الطائفية والعرقية. والحقيقة أن هناك دلائل عدة على خطورة الهويات الضيقة كما رأينا في مذابح البوسنة ورواندا. بل شهدت منطقتنا هكذا صراعات، ولا تزال في عدة مناطق من العراق ولبنان إلى سوريا واليمن. ويصر الكاتب على أن الهوية الإثنية أو الدينية أو اللغوية لا تشكل بالضرورة أسساً لتكوين الأمة. بل إنه «من الطبيعي والمشروع أن تعيش شعوب في إطار الكيان السياسي نفسه من دون الانتماء إلى دين نفسه، أو اللغة نفسها، أو المسار التاريخي نفسه».
ولهذه الأسباب فإن سفينة الحضارة آيلة إلى الغرق؛ ولأنه ليس هناك قبطان يستطيع أن ينقذها. فالولايات المتحدة القوة الأعظم في العالم، أصبحت يعتريها كثير من العورــ خاصة بعد تهورها في غزو العراق. وأوروبا غير متحدة لتستطيع أن تلعب دور المنقذ رغم أنها مؤهلة للقيام بهكذا دور، فهي مهد الحضارة الحديثة، وتمتلك كثيراً من المقومات المادية.
وتطور التكنولوجيا، وخاصة في مجال الذكاء الاصطناعي والذي يزيد من تغول السلطات للسيطرة وتقيد حرية الأفراد، مصدر آخر للقلق على مستقبل الحضارات. كما أن تدهور البيئة بسبب ما يقوم به بني البشر لا يبشر بالخير لمستقبل هذا الكوكب والتي بدأت بوادر التغير في المناخ بادية للعيان.
وما نراه هو أن العالم اليوم يحتاج إلى أنسنة علاقاته الكلية وصياغتها على نهج مبتكر تعلو فيه القيم الإنسانية على حساب الهويات الضيقة والولاءات القومية. علاقات تحترم وتراعي أبناء هذا الكوكب من البشر والحيوان والبيئة المناخية. وإلا فإن سفينة معلوف الحضارية ستُودي بنفسها إلى الهلاك.
* كاتب وأكاديمي