بناء الصحة في زمن الانهيار

ت + ت - الحجم الطبيعي

مجرد التفكير في «انهيار النظام الصحي» في أي دولة أمر مرعب، فما بالك بالتلويح عن قرب حدوثه أو ظهور علاماته أو الإعلان عن انهيار المنظومة فعلياً؟! بلدان كنا نظن أنها تتمتع بأفضل الأنظمة دخلت مراحل ما قبل الانهيار. بلدان أخرى انهارت أنظمتها فعلياً، والعالم يكاد يقف بلا حراك أو بحراك في أضيق الحدود. وفي زمن الجائحة، وبحسب الدروس بالغة القسوة التي تعلمنا إياها، فإن النظام الصحي الذي يبدو اليوم متماسكاً قادراً على المواجهة والمثابرة، قد تهزمه متحورة غداً أو تنال منه موجة بعد غدٍ.

ورغم محاولات خبراء أوبئة ومسؤولين أمميين ووزراء صحة التخفيف من حجم عبارة «انهيار النظام الصحي»، إلا أن ما يجري في عدد من الدول يدعو إلى القلق واتخاذ أقصى درجات الحذر. الوضع في تونس سيئ.

عدد الإصابات اليومية يتفاقم، وتم تسجيل إصابات يومية ووفيات قياسية غير مرة خلال الأيام القليلة الماضية. هذه الأعداد الكبيرة مثلت ضغطاً غير مسبوق على البنى التحتية الصحية – التي لم تكن في أفضل حالاتها قبل الوباء. ومضت حلقة الضغط تحكم إغلاقها، فالأعداد تتفاقم، واللجوء إلى أقسام العناية المركزة يزيد، والضغط على أجهزة الأكسجين والإمدادات الطبية يتضاعف، والفرق الطبية تقع تحت وطأة الإرهاق الرهيب.

وضع مشابه وإن لم يكن متطابقاً تعيشه بريطانيا التي تراوحت نعوت أسلوبها في التعامل مع الوباء منذ اتضحت معالمه بين التقلب والاضطراب والغرابة. وزير الصحة البريطاني الجديد ساجد جاويد قال قبل أيام أنه صُدِم بأعداد الموضوعة أسمائهم على قوائم الانتظار للحصول على علاج لأمراض لا تتعلق بـ«كوفيد 19». ورغم أنها أمراض لا تتعلق بالوباء، إلا أن الوباء ألقى بظلاله الوخيمة على نظام بريطانيا الصحي أيضاً، والذي يعاني منذ سنوات طويلة من ترهل وعدم كفاءة.

هذا النظام الذي «يوفر الرعاية الصحية المجانية» كان مصنفاً خامس أكبر مؤسسة في العالم من حيث عدد الموظفين (1.5 مليون موظف)، يقع في القلب من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

فعلى مدى سنوات، استخدمه سياسيون كرهان في الانتخابات واعتبره مؤيدو «بريكست» المكون الرئيسي في الخروج. وتم الربط بين خروج بريطانيا واستعادة القطاع الصحي عافيته. تخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فتجد أموال ميزانيتها التي كانت «تُهدَر» في الاتحاد تحت إمرة القطاع الصحي. خرجت بريطانيا، ولم تذهب الأموال للقطاع الصحي، وجاء الوباء ليزيد الطين بلة.

المثير هو أن أصواتاً عدة حذرت في عام 2017 مما يمكن أن تفعله الإنفلونزا الشتوية «البسيطة» في النظام الصحي المتهالك. ولأن شر البلية ما يضحك، فإن ربع المترددين على أقسام الطوارئ في عام 2017 كانوا يعانون من الانتظار لفترات طويلة قبل معاينتهم تصل إلى أربع ساعات. اليوم الاحتمال الأرجح هو عدم القدرة على الوصول إلى الطوارئ من الأصل، أو الاكتفاء بـ«زووم» حال توافر الحظ والطبيب.

الحظ والطبيب واجتياز الجائحة، ثالوث الأماني في زمن الجائحة وكابوس انهيار الأنظمة الصحية. فمن تونس وبريطانيا وإندونيسيا، اليوم، إلى الهند والمكسيك والبرازيل، أمس، وقبلها إيطاليا والصين، ومن يعلم ماذا تحوي قائمة الغد، تهيمن عبارة «انهيار النظام الصحي» على فكر الجميع.

منظمات حقوقية عدة أخبرتنا بضرورة حماية الحقوق وضمان الرعاية دون تمييز للجميع في زمن الجائحة. منظمة الصحة العالمية أصدرت إرشادات خاصة بعمل الأنظمة الصحية في بداية الجائحة لـ«تخفيف مخاطر انهيار الأنظمة الصحية». لكن النصحية أتت متأخرة بعض الشيء حتى وإن كان أغلب الأنظمة الصحية في العالم تبذل قصارى الجهد لحماية نفسها من الانهيار.

فمن «مناعة القطيع» إلى المسارعة بتطبيق إجراءات احترازية قاسية وإغلاقات اقتصادية أكثر قسوة أو التردد في الإجراءات والارتباك في الإغلاقات خوفاً من ارتدادات شعبية واقتصادية لا حمل للأنظمة السياسية بها إلى صراعات مسلحة وفرت على «كورونا» مهمة الضربة القاضية للنظام الصحي، تجد أنظمة العالم الصحية نفسها مضطرة بشكل أو بآخر وبدرجات متفاوتة التعامل مع «كوفيد 19» بطريقة «المحاولة والخطأ». محاولات تصيب هنا وتخيب هناك. محاولات لمد يد المعونة ممن يملك جزئياً لمن لا يملك.

لقاحات، علاجات، معدات طبية وحتى المشورة جميعها يصبح أشبه بـ«مساعدات قليلة تقي بلاوي كثيرة». وبلاوي الجوائح دوارة، فمن يظن نفسه محمياً آمناً اليوم، قد لا تتركه المتحورات والموجات هانئاً غداً.

لذلك فإن بدء العمل لما بعد جائحة «كوفيد 19» اليوم صار حتمياً. وهذا ما يجعل التقرير الصادر عن البنك الدولي قبل أيام «إعادة تصور الرعاية الصحية الأولية بعد فيروس كورونا» بمثابة خطة عمل من شأنها توفير الأمن والرخاء الصحي قدر المستطاع وليس فقط مواجهة جائحة جانحة وانهيار أنظمة لم تكن على البال أو الخاطر.

Email