سيدة ميانمار الصلبة تنتظر محاكمة صعبة!

ت + ت - الحجم الطبيعي

ربما لم تعرف آسيا منذ اغتيال المهاتما غاندي في يناير 1948، شخصية وقفت في وجه العنف الممنهج، وطالبت شعبها بمقاومته بطريقة سلمية غير سيدة ميانمار الجسورة أونغ سان سوكي ابنة زعيم الاستقلال الجنرال أون سان، الذي فاوض الإنجليز لنيل استقلال بورما عام 1947، والتي درست في أفضل جامعات بريطانيا والهند حتى حصلت على دكتوراه في الفلسفة، وفازت بجائزة سخاروف لحرية الفكر عام 1990 ثم جائزة نوبل للسلام عام 1991 فجائزة جواهر لال نهرو عام 1992، وغيرها من الجوائز والأوسمة الرفيعة، تكريماً لها على مواقفها في وجه نظام بلادها الديكتاتوري العسكري الوحشي على مدى ستة عقود من الزمن تعرضت فيها للإذلال والنفي والاحتجاز القسري والتهديد بالقتل.

وما إن كادت تقطف بعض ثمار نضالها من خلال قبول العسكر بحزبها السياسي (الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية) شريكاً في الحكم، بعد أن فاز الأخير فوزاً كاسحاً في انتخابات عامي 2015 و2020، حتى وثب الجيش مجدداً إلى السلطة عبر انقلابه المفاجئ في الأول من فبراير 2021، بدعوى أن انتخابات 2020 البرلمانية شابها القصور والخلل، وأن دستور البلاد يعطي الصلاحية للجيش للتدخّل وإعلان حالة الطوارئ في حال وجود محاولة للاستيلاء على السلطة بطريقة غير قانونية. وعلى الرغم من تفاهة هذا المبرر وعدم صدقيته، دعك من تنديد العالم كله بالانقلاب، فقد أقدم عسكر ميانمار على احتجاز سوكي ومجموعة من محازبيها، فانقطعت أخبارها مذاك.

والحقيقة أن هذه السيدة التي كانت أيقونة للنضال من أجل الحرية والديمقراطية ورمزاً للسلام وأملاً لشعبها المضطهد في حياة كريمة كبقية الشعوب المجاورة، خسرت الكثير من رصيدها وصدقيتها، ليس لأنها تعاونت مع جلاديها في عملية سياسية مشوّهة ومقيّدة بقيود كثيرة منصوص عليها في دستور 2008 الذي صاغه جنرالات الجيش بأنفسهم (منها مواد تحصّن العسكر ضد المساءلة القانونية ومواد أخرى تضمن لهم نسبة من مقاعد البرلمان كيلا يُمرّر أي تشريع من دون موافقتهم)، وإنما لأنها صمتت ووقفت موقفاً سلبياً من تعرض مسلمي بلادها من أقلية الروهينغيا للاضطهاد العرقي والديني، بل رفضت إدانة العنف ضد هذه الأقلية في عامي 2012 و2015 قائلة إنها لا تعلم ما إذا كان من الممكن اعتبار الروهينغيا من مواطني ميانمار. وإذا كان تعاونها مع العسكر عملاً يمكن تبريره بهدف التخفيف من بطشهم تجاه مواطنيها وأنصارها العزّل، فإن لامبالاتها بقضية مواطنيها الروهينغيا لا مبرر ولا تفسير لها إطلاقاً.

اليوم تجد سوكي نفسها مجدداً في قبضة العسكر الذين يعدّون العدة لمحاكمتها وإطلاق الرصاصة الأخيرة عليها. فهي تواجه سلسلة من الاتهامات التي لو دِينت فيها لقضت البقية الباقية من عمرها في المعتقل، وخصوصاً أنها تبلغ 76 عاماً. وتتدرج الاتهامات الموجّهة إليها من تهمة استيراد وتملّك أجهزة اتصالات غير مرخّصة إلى تهمة مخالفة قوانين عدم إفشاء الأسرار الرسمية، مروراً بتهم فساد مثل استخدام صفتها مستشارةً للدولة (منصب يوازي منصب رئيس الوزراء) في تلقّي أكثر من 600 ألف دولار بطريقة غير مشروعة، والحصول على رشوة في صورة 11 كيلوغراماً من الذهب.

لا يتوقع المراقبون أن تحصل سوكي على البراءة أو على حكم مخفّف في هذه المحاكمة التي قد تمتد إلى أشهر. صحيح أن هناك فريقاً من المحامين سيتولون الدفاع عنها، وصحيح أن دستور البلاد ينص على أن السلطة القضائية مستقلة، ولكن الصحيح أيضاً أن القضاء لا يملك اتخاذ أي قرار أو إصدار أي حكم من دون مشاورة وموافقة السلطة السياسية المتمثلة بالجيش حالياً. هذا ناهيك عن أن معظم قضاة المحاكم والمحامين ومسؤولي الادعاء تدربوا تحت يد العسكر أو كانوا يوماً ما من ذوي الرتب النحاسية، ما يجعل محاكمة سوكي غير عادلة في مختلف الأحوال، وخصوصاً مع وجود سوابق بالفساد في مختلف مستويات التقاضي.

ولعل أكبر دليل على تسلّط العسكر على السلك القضائي وسلك المحاماة ما حدث في 29 يناير 2017 بحق المحامي المسلم وعضو الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية «كو ني» الذي أردي قتيلاً في مطار يانغون الدولي وقت عودته من مؤتمر في إندونيسيا حول الديمقراطية وحل النزاعات. وقد وصفت الحادثة في حينها بالاغتيال السياسي لأن القتيل لم يستجب لرغبات العسكر في الكف عن الترافع في قضايا العنف ضد الروهينغيا، والامتناع عن رفع دعاوى حول إصلاح دستور ميانمار وتنقيحه.

Email